الاستعارات التي تمضي
«ما يراه بعض الناس بوصفه تشظيًا يائسًا، ينظر إليه آخرون بوصفه تحرُّرًا مُبهجًا»
تيري إيغلتون
هل هناك سؤال حقيقي وسؤال مزيف؟ هل هناك حقيقة تدعى رومانسية وحقيقة أخرى دراماتيكية؟ هل هناك فرق كبير إذا قلنا مع المسرحي الراحل سعدالله ونوس ونحن نستقبل السنة الميلادية الجديدة: «إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ-1996م»، وبين قولنا مع محمود درويش في قصيدته (حالة حصار):
«هُنا،
عند مُنْحَدَرات التلال،
أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعلُ العاطلونَ عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ»
لنسأل بعد هذين الاقتباسين: ما الأمل؟ ما الوقت؟ ما التاريخ؟ ما النهاية؟ من المسؤول عن نظام التفاهة بتعبير ألان دونو الذي يتمدد فينا؟ ألا نُحمل أنفسنا فوق طاقتها ونحن نراها محاطة بمؤلفات وعناوين وتأويلات ترى أن مستقبلنا جميل ومشع، وأن حاضرنا سيكون بلا إرهاب ولا فساد ولا أوبئة؟ مَن يتحمل تكرار الألفاظ السّامة التي نتحايل بها على أنفسنا لنستمر في الحياة؟ هل الساسة هم المسؤولون عن تردي الأحوال أم العلماء أم الأكاديميون أم أنها معاجم اللغة والبلاغة والنحو ومحاضرات النقد والحداثة؟ أو بتعبير آخر: «لماذا يجب أن يتخيل المرء بأنه حين توجد مشكلة، يوجد حل على الدوام؟» من منحنا هذا الاعتقاد؟
إن البحث حول هذين السؤالين أو التعبيرين «الزائف والحقيقي» سعى الفلاسفة واللاهوتيون في الاجتهاد لإجابتهما. هل نشعر مثلا بضيق في الحياة ونحن نرى تراجع أنواع مختلفة من المشاريع: الخاصة، والعامة، والتنويرية؟
لم يكن عنوان كتاب (معنى الحياة مقدّمة وجيزة) لمؤلفه تيري إيغلتون، ترجمة رندة بعث، مراجعة رباب عبيد، الصادرة طبعته الأولى سنة 2020م عن هيئة البحرين للثقافة والآثار في المنامة كتابًا يصلح البدء به لاستقبال 2023م، لأسباب مهمة هي: مناقشته لمفهوم صعب؛ لأن لكل إنسان رؤيته تجاه معنى الحياة، وهو معنى يتشّكل من رؤى وأفكار ومواقف وتجارب مصيرية ذات بُعد حميمي جدا، كما أن مفهوم «المعنى» بذاته كتبت فيه العديد من المؤلفات؛ منها ما يتعلق بقضايا معنى الفكر ومعنى تذوق اللغة ومعنى سؤال الموت، وأيهما أكثر تجددا الحياة أم الموت؟ وكذلك قضية سؤال الحياة نفسه، ما قيمتها؟ ومن أين تكتسب الحياة معناها؟ لكن هذا السؤال البسيط في ظاهره والمعقد في باطنه لا يخلو من طرافة واجتهاد كرّس معه الفلاسفة جُّل حياتهم لإجابته.
استفززني عنوان الكتاب، وشدّني كثيرا، لذا قررت البدء في قراءته وأنا أستقبل 2023م فهو يفيد المشتغلين في الدراسات الأكاديمية والقراءات الثقافية. إذا تجاوزنا صفحة الإهداء بالرغم من دلالتها الغامضة والفكهة في آن؛ فإن المؤلف ينوه في صفحة المقدّمة إلى أن موضوع البحث في معنى الحياة هو «موضوع يناسب الممسوسين أو الفكاهيين» متمنيًا المؤلف لنفسه أن يكون من بين الفكاهيين. يحتوي الكتاب على التالي: قائمة للرسوم التوضيحية، ومقدّمة، والفصل الأول: أسئلة وأجوبة. والفصل الثاني: معضلة المعنى. والفصل الثالث: أفول المعنى. والفصل الرابع: هل الحياة هي ما نصنعه منها؟ وقراءات أخرى. وثبت المصطلحات عربي- إنجليزي ويتضمن (48) مصطلحا. وثبت المصطلحات إنجليزي- عربي ويتضمن أيضا (48) مصطلحا)
نظرًا لاستقبالي عام 2023م بالعديد من المراجعات ووضع الخطط وسؤال الذات عما جرى إنجازه أو الإخفاق فيه، أو التراجع عنه بوعي، فقد شدني الفصل الأول من هذا الكتاب ومناقشته، وسأكتفي هنا بتناول أهم النقاط التي جاءت فيه وربطها مع ما يتصل بالخاص والعام. ينطلق تيري إيغلتون من نقطة فلسفية ثابتة هي انشغال الفلاسفة بإثارة الأسئلة أكثر من بحثهم عن إجابات، فيقول: «... هكذا أريد أن أبدأ. هل السؤال ما هو معنى الحياة؟ سؤال حقيقي، أم أنّه يبدو حقيقيا فحسب؟ هل هنالك ما يمكن أن نعدَّه جوابا عنه، أم أنّه فعلا نوعٌ من السؤال الزائف؟» وعلى نحو شخصي كآمنة غالبا ما يُربكني هذا السؤال، ليس معنى الحياة، بل ما الحقيقة؟ عن أيّ حقيقة نتكلم عندما نطرح هذا السؤال السّام؟ من واقع ثقافتي الإسلامية كمرجعية فإنّ الحقيقة الوحيدة الثابتة المتماسكة والمتكررة أمامي هي الموت فقط، وما عداها محض استعارات.
في تقديري أن المؤلف يريد القول إن سؤال ما معنى الحياة؟ زائف، وبحسب تعبيره «عديم المعنى بذاته» إنّه أشبه بالمثْل الذي نقوله في ظفار من باب التهكم: «يخيطون في السماء قمصانا»، فإذا كان «لا طعم لعلم الهندسة» كما يطرح المؤلف، فإنّه لا خياط استطاع أن يخيط قميصا لأحد في السماء، ولا تمكن أحد التجار من بيع سمك في البحر!
يفترض تيري أيضا وجود سؤال أهم من سؤال ما معنى الحياة؟ والسؤال هو: «لماذا يوجد أي شيء أصلا، بدلا من العدم؟ لماذا يوجد أصلا شيء نستطيع أن نسأل بصدده ماذا يعني؟»
هذا سؤال ملغز فعلا؛ لأننا إذا فكرنا قليلا سنجد الكثير من الأشياء ملقاة أمامنا قبل أن نُخلق ولا نملك لها تفسيرا لذا نسأل لماذا هي موجودة، وماذا تعني من وجودها؟
يتدرج تيري في مناقشة السؤالين من عند الفلاسفة فاللاهوتيين؛ لودفيغ فتنغنشتاين (تحقيقات فلسفية)، مارتن هايدجر (الكينونة والزمان)، الفلاسفة الأنغلوسكسون، فريدريش نيتشه (ولادة التراجيديا)، جاك دريدا (التفكيك). يرى فتنغنشتاين -كما يكتب المؤلف- «أن مهمة الفيلسوف ليست حلّ تلك التساؤلات بقدر ما هي تفتيتها- إظهار أنَّها تنبع من الخلط بين نوع من اللعبة اللغوية ونوع آخر، مثلما سمّاها. نحن مسحورون ببنية لغتنا. ووظيفة الفيلسوف هي تحريرنا من الوهم عبر تفكيك مختلف استخدامات الكلمات»
الإشكال كما يبدو في الفقرة السابقة يختص باللغة. فمفردة «الأمل» التي أكدّ عليها ونوس ودرويش شكل من أشكال التلاعب ببلاغة اللغة، كما تلاعب فتغنشتاين من مسرحية الملك لير مثلا التي استشهد بمقطع منها. وهذا هو نيتشه يُعلن في مقطع آخر: «إن معنى الحياة الحقيقي أكثر ترويعا لنا من أن نتكيف معه، ولهذا السبب نحتاج إلى أوهامنا المعزية، إن كان علينا المواصلة. وما ندعوه حياة هو مجرد سرد خيالي ضروري. لولا وجود خليط هائل من التخيلات، لكان الواقع ساحقا لدرجة تتوقف معها الحياة»
حسب تقديري الشخصي لم أكن أبحث عن إجابة السؤال لدى الفئتين السابقتين؛ الفلاسفة واللاهوتيين، فالساحة الأقرب للإجابة ينبغي أن يكون فيها: الكتّاب والأدباء والشعراء والمتصوفة والفن. لنسأل مثلا: ما معنى الحب، أو الألم؟ أو اللذة؟ «إن عدم معرفة معنى الحياة يمكن أن يكون جزءا من معنى الحياة.»
تنبع قيمة هذا الفصل كذلك من التفات المؤلف إلى التراجيديا على الرغم تاريخيا من «هبوطها الفني لدى الرومان»، أو موتها بتعبير نيتشه، «بعد أن حلت محلها الدراما الحديثة سواء النثرية أو الشعرية» بتعبير أحمد بلخيري في (معجم المصطلحات المسرحية) لكنّ لالتفاتته دلالتها، ولا بأس عند هذه النقطة من العودة إلى (فن الشعر) للمعلم أرسطو، لنجد أنفسنا نفتتح سنتنا الميلادية بتذكر الدروس الأولى حول التراجيديا. عرّفها أرسطو بأنها «محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزوّدة بألوان من التزيين وتختلف وفقا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية، تثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات.»
أما اليوم، فالعالم بتراجع مفهوم القُطب الواحد بعد إعلان روسيا الحرب، وبعد ارتفاع نسبة الوفيات على أنحاء مختلفة، فإن العالم يرفع من وتيرة التحدي بصراعاته حول مصالحه ومبدأ البقاء للأقوى؛ لأنه يمتلك المعرفة والتكنولوجيا والأسلحة، وعندئذ علينا العودة في تأمل دور الفن من جديد، فلا وجود لبطل تراجيدي إذ «لم تعد هناك تراجيديا في القواعد، ولكن يوجد شعور راسخ بوجود التراجيدي في الوجود» (معجم المصطلحات المسرحية) ولهذا الشعور يعتقد الأغلبية أن العالم يتحكّم فيه ثلة من الرأسماليين والمتنفذين الحقراء والحمقى والأغبياء، وثلة من الآخرين يتلظون بنار تفاهات جحيم الفقر والعوز والمرض ومعاجم اللغة والنقد وغياب العدالة الاجتماعية.
عطفا على التراجيديا، يكتب تيري إيغلتون أن «من بين الأشكال الفنية كافة، التراجيديا هي الشكل الذي يواجه سؤال معنى الحياة بأكثر الطرق تفحصا وثباتا، إذ إنها مستعدة بشجاعة لتلّقي أشد الأجوبة عنه ترويعا» تبدى مواجهة تحديات ذلك السؤال بشجاعة في مواقف تراجيدية إغريقية كثيرة؛ كأوديب، وأنتيغون، وأجاممنون، وبتفكر شجاع ليس للتراجيديا بل الشعور بالمأساة في التراث الحكائي يُمكن تأمل قول شهرزاد، وبانتقال إلى واقعنا العربي المعاصر فإنّ الشعور الراسخ بوجود مأساوي في الوجود ينطبق عليه ثلة أولئك الذين تلظّت بلدانهم بكل أشكال الاحتلال والنكبات والإرهاب والتهجير وتراجع المجتمع المدني «حيث اعتبرت حياة الإنسان فيها رخيصة على نحو مرعب»؛ فلسطين، اليمن، سوريا، لبنان، العراق، السودان، فاضطر الناس فيها لمغادرة أوطانهم للبحث عن معنى جديد حول هذا السؤال: لماذا العدم؟ لا، ليست التراجيديا الأصلية ما دفع الشعوب المعاصرة إلى مواجهة سؤال العدم، ولا المآسي، بل وجود الإرادات التي يُمكن احتمالها.
يلفت المؤلف أذهاننا في فقرة مهمة إلى فكرة معضلة وجود ما يدعى «الشرط البشري»، فالبشر «قادرون على تجسيم وجودهم، خاصّة بسبب امتلاكهم لغة، بطريقة يُفترض أن السلاحف تعجز عنها [...] اللغة لا تسمح لنا فحسب بتشكيل فكرة واضحة عن أنفسنا، بل كذلك بتصوّر وضعنا ككل»، ويرى المؤلف أن فلاسفة القرن الثاني عشر كانوا مطمئنين، وهم يقولون «بوجود أساس متين للوجود البشري، ألا وهو الله» على عكس فلاسفة القرن العشرين الذين امتاز حديثهم حول الانتصار لأفكار ما بعد الحداثة بشيوع ألفاظ كالسأم، والعجز، واليأس، والتمزق والغثيان والعبثية، وحتى وإن كانت تلك الألفاظ قد احتضنتها الحداثة، فإن الحداثة وما بعد الحداثة يتفقان بشأن الاعتقاد «أن وجود الإنسان عرضي- أي ليست له أرضية أو هدف أو اتجاه أو ضرورة، وبأنه كان يمكن بسهولة كبيرة ألا يظهر النوع البشري على الكوكب أبدا»، وعطفا على هذا ألا نستنتج أن الحداثة وما بعدها تريان أن الوجود البشري في العالم لا ضرورة له، وعليه فإن العدم هو الأصل!
إن سؤال «ما هو معنى الحياة؟» يدفعنا في عالم لا يعزز اليوم من قيم المشاركة والتضامن بين البشر، بل يوصلنا إلى ذرائعية محضة! يشير المؤلف إلى أن إجابة السؤال الملغز قد جرى سحبها من ساحة الشعراء والفنانين والمبدعين الذين قد تورطوا في سؤال الذات ولعبة الوجود، ونقله إلى ساحة آخرين هم «المعلمون الروحيون Gurus والمدلِّكون الروحانيون Spiritual Masseurs تقنيِّو السرور الموجَه وخبراء المداواة النفسية»، ويقول: «... يبدو أن الفلاسفة قد اختزلوا إلى مجرد تقنيين علميين للغة. صحيح أن فكرة الفيلسوف بوصفه مرشدا إلى معنى الحياة تصور شعبي خاطئ ...» حيث يربط بعدها العديد من القضايا في العالم كفقد اللاهوت صدقيته، وزحف العلمنة وتراجع أسئلة الأخلاق، وقوة رياضة كرة القدم في قراءة العالم. سيظل سؤال ما معنى الحياة؟ يحلق في فضاء العقل الذي يتحرى البحث، فإذا كان للحياة معنًى «فهو شيءٌ نتدبَر إكسابها إياه، ولا تأتي مزوَّدة أصلا به».
