خطر المحاكاة والقرية الصغيرة
لا مناص من الاعتراف بتلاشي المسافات في العالم الافتراضي المفتوح الذي نعيش فيه ونعايشه شئنا أم أبينا، كما لا مجال لإنكار مؤثرات هذا العالم المفتوح على سكانه من البشر سلبا وإيجابا، وأخشى ما قد يتصوره المراقب هذا العالم غلبة السلبيات على الإيجابيات.
أحداث رياضية وأخرى ثقافية أصبحت مساحات حوار وتحليل وتقييم ونقاش، ومثلها ما يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد، فمن متابعة موازنة مالية محلية إلى موازنات أخرى إقليمية وعالمية صارت متاحة كلها للجميع، مع تحليلاتها وتصنيفاتها ورأي المختصين بها وغير المختصين، إلى خصوصيات مجتمعية وتحولات دستورية، وخلافات سياسية، وتكتلات اقتصادية، وتآلفات إقليمية؛ كلها صارت فوق طاولة النقاش الافتراضي، متاحة لكل عابر عارف أو جاهل، خبير أو أجوف، وكلها بئر مشاع للدلاء من كل وجهة وكل لون.
لكن المواضيع التي يخشى من تحولها لموضوعات نقاش هي ما يتعلق بحياة الأفراد، ثم المجتمعات على اعتبار أن الفرد هو الوحدة الأساسية لتشكل المجتمعات.
وكما أن الخير ينتشر ويحفز على الخير، فتتسع دائرة خير ومبادرات عطاء خرجت من قرى قصيّة في أي بلد بالعالم لتنتشر وتجد متبنيها في دول وأقطار أخرى، لينمى الخير ويسعد الإنسان، يمكن مثلها أن تكبر دوائر الشر فتلاقي انتشارا مضاعفا ومحاكاة أكبر، خصوصا مع تحديات معاصرة مادية، واجتماعية، وروحية تجعل انتشار الظواهر السلبية في فضاءات التواصل الاجتماعي أوارا لا يمكن إخماده، ونارا لن يسهل إطفاؤها.
نتابع كل ذلك إذ ننتقل من جرائم عنف تنتقل من بلد إلى آخر، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، تماما كما تنتقل تغريدة رقمية في زمن قياسي من كاتبها إلى ملايين المتلقين، فهل يغذي العنف العنف؟ وهل يقود الإشهار لتجنب العنف أم إلى تعزيزه وتأصيله؟وهل هنالك خطط توعية وإرشاد منظمة تسعى لحماية هذا الجيل المسكون بالكثير من الهواجس من محاكاة تفضي بمجتمع كامل إلى الحسرة والشتات والأسى؟!
من جرائم قتل بالسلاح الأبيض في مصر إلى غيرها في الجزائر، ثم الأردن، وبعد أن بلغت فقاعات العنف غايتها، وبعد أن تتشبع وصائل التواصل الاجتماعي بها بكل ما تحويه من تفاصيل ومعطيات تنتقل هذه الشرارة إلى الخليج في عمقه الآمن بسلطنة عمان عبر مجموعة أحداث كلها يعكس العنف والميل للقتل لمعالجة خلافات شخصية يمكن أن تكون يومية عابرة، أو اجتماعية ممكنة التوافق، أو مادية مقتضية لحسن التدبير أو حسن التعبير، إلى أخرى في السعودية وهي التي تابعناها خلال هذه الأيام من إقدام صديق على إحراق صديقه داخل مركبته، وتوثيق كل تفاصيل الحادثة والحوادث السابقة عبر مختلف وسائل الإعلام غير التقليدي، وانتشارها انتشار النار في الهشيم.
ما زالت مشاهد القتلى وأصواتهم تملأ الذاكرة الحقيقية – لا الافتراضية – لكل من مر بقراءة أو متابعة، أو استماع لاستقبال كل تلك السلبية وكل ذلك الشحن، وكل تلك التخيلات المرعبة متمنين أن يكون ختامها صوت الضحية الأخير الذي كان يصرخ بصديقه "أنا أخوك، إيش سويت لك؟"
ونصرخ معه جميعا: أن نعم: ماذا فعل كل هؤلاء الضحايا؟ ما المبرر لكل هذا العنف؟ ماذا يحدث في مجتمعاتنا لنتحمل وبشكل دوري كل هذه المشاهد للعنف والعداء، والانتقام المرعب بأشكاله المختلفة؟
هل ينبغي تطويق وتحجيم نشر هذه القصص ما أمكن؟ خشية تقليدها ومحاكاتها من مراهقين صغار سن، أو بالغين صغار عقل، خصوصا مع دهشة المتلقي في بعض حوادث العنف والقتل من حرص المتلقي المحايد على توثيق القصة دون المشاركة في مساعدة الضحية مع إمكانية ذلك، فهل صار السبق التوثيقي للحادثة أهم وأولى من السبق الإنساني لإنقاذ روح من الموت ؟!
هل قولبتنا العوالم الرقمية، فتكلّست مشاعرنا، وتبلدت أحاسيسنا، فلم نعد نشعر إلا بغبطة المصدر الأول لحادثة دموية سواء كانت تلك الحادثة، مرورية، قتل، أو اشتباكات عنف قد تحدث بين أطفال أو مراهقين أو أطراف خلاف هم في الواقع قربى رحم أو قربى ود؟
إن كل هذه التداعيات الأخيرة- التي هي إرهاصات لتحول جيل اليوم إلى هذا الجيل الرقمي الذي نراه اليوم، ونعايشه ونعيش معه، ولا مجال لنكرانه أو تجاهله- تحتم علينا جميعا التفكير مليّا في تكثيف رسائل السلم، ومحفزات الإيجابية، وتوجيه طاقات الشباب توجيها إيجابيا إبداعا وظيفيا، أو مساهمات تطوعية إنسانية، لا بد من تعزيز العلاقات الاجتماعية الواقعية، مقابل العلاقات الافتراضية المجردة، لا بد من نشر وتسويق النماذج الخيّرة والإيجابية محليّا وعالميا، علّنا نتمكن جميعا حينئذٍ من توجيه بوصلة المحاكاة الافتراضية إلى وجهة نرضاها لأنفسنا وشبابنا ومجتمعاتنا، ولا يتأتّى ذلك دون سعي دؤوب لتجفيف كل منابع العنف والعداء عبر إحكام قبضة القانون أولا، ثم عبر عمل مجتمعي دائم لخلق البدائل، واقعا ومحاكاة.
