صُحاريّة عريقة.. من طريق الحرير إلى القوة الناعمة

11 ديسمبر 2022
11 ديسمبر 2022

تروم الصين حياكة مستقبلها السياسي والاقتصادي عالميا تماما كما كانت تحوك حريرها، وكما تصنع بحذق خزفها ممهدة طرق التسويق والتوزيع قبل قرون، على مهل بمنتهى المهارة والدقة. وحين يأتي الرئيس الصيني زائرا منطقة الخليج ـ خلال هذه الفترة من عمر تشكل العلاقات الدولية، وتحرك موازين القوى العالمية ـ فإن زيارته هذه ضمن خطط صينية حصيفة مدروسة استشرافا لمستقبل الصين اقتصاديا في تجسير علاقاتها بالعالم عموما، وبمنطقة الخليج خصوصا مع كل ممكناتها الاستراتيجية.

ومع هذه الزيارة التاريخية للخليج وحضور قمتين أولاهما صينية خليجية، والثانية صينية عربية لا يمكن للحديث أن يتجاوز مبادرة الصين العصرية "الطريق والحزام" التي تحاول عبرها استعادة مجد "طريق الحرير" التاريخي، كما لا يمكن إغفال مهارة الرئيس الصيني شي جين بينغ في توظيف القوة الناعمة مستدعيا تاريخ العلاقات الصينية العربية تاريخيا سعيا لبعثها وإحيائها عبر دعم وتمكين مبادرة "الطريق والحزام" الحديثة التي تحاول بها الصين تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والوسطى، كما لربط الصين بالعالم عبر تأسيس وتأمين البُنى التحتية على طول الطريق الذي يربطها بالقارة الأوروبية، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافىء وطرق وسكك حديدية ومناطق صناعية، مع كل ما قد يتطلبه ذلك من علاقات اقتصادية ومعاهدات دولية وشراكات دبلومساسية.

ضمن حديث الرئيس شي جين بينغ الذي سرده في مقالة نشرتها جريدة الرياض السعودية لم ينس الإشارة إلى الدور البحري العماني تاريخيا لربط الصين بالعالم العربي، منوها على سبيل التخصيص بالرحلات البحرية التي قام بها البحّار العُماني أبو عبيدة عبدالله بن القاسم إلى مدينة قوانغتشو الصينية قبل أكثر من 1200 عام على متن سفينة انطلقت من ميناء صحار العُماني.

سفينة صحار التقليدية محلية الصنع التي انطلقت من سواحل السلطنة قبل ما يزيد عن خمسة قرون لتصل الى ميناء كانتون في الصين نجحت في الإبحار لما يقارب ستة آلاف ميل معتمدة على حنكة ومهارة بحارتها من العمانيين الذين سعوا لمحاكاة مجدهم البحري الخالد.

فكانت التوجيهات السامية للسلطان قابوس بن سعيد (رحمه الله) عام 1980م، ببناء سفينة مشابهة للسفينة صحار لخوض التجربة البحرية في نفس ظروف وأجواء مسارها التاريخي، أبحرت السفينة يوم 23 نوفمبر 1980م من شواطئ سلطنة عمان لتقطع 6000 ميل بحري، وصولا إلى مدينة جوانجو الصينية يوم 10 يوليو 1981م مرورا بموانئ الهند – سيرلانكا – أندونيسيا وماليزيا، رحلة جعلت منها نموذجا جديرا بالاحتفاء، وشاهدا على تاريخ بحري لا يغيب، وعلاقات تجارية لا تبلى.

الخطاب الصيني العربي في مقالة الرئيس الصيني جاء مليئا باستشهادات رقمية، تعكس عمق العلاقات من جهة وقوة الحضور الصيني اقتصاديا وثقافيا عبر العقود الأخيرة موظفا إنشاء المعاهد الثقافية وتدريس اللغة العربية في الجامعات الصينية، فضلا عن العلاقات التجارية والشراكات التقنية والعسكرية دوليا.

الرئيس الصيني الذي يرأس الصين في ولايته التاريخية الثالثة والذي يقول عنه جوزيف فيوسميث الخبير في السياسة الصينية بجامعة بوسطن "قبل صعود شي جينبينغ للسلطة، كان يُعتبر شخصا بإمكانه التوصل إلى حلول وسط وتسويات مع الجميع" ما زال بإمكانه توظيف ما يكفي من مشتركات ثقافية تاريخية سعيا لنجاح مسعاه التاريخي لتمكين الاقتصاد الصيني عالميا.

قراءة الزيارة الصينية لدول الخليج العربي لن تكون محل ترحيب من قبل شراكات دولية أخرى منافسة اعتقدت لقرون بأنها أحكمت قبضتها على معاهدات الخليج، بل والعالم العربي أجمع، لكنها كذلك لا يمكن أن توقف هذا العملاق الاقتصادي من التحرك والتقدم لنيل طموحاته المشروعة.

يمكن للتحديات الاقتصادية عالميا أن تكون رهان المرحلة القادمة، وليس من الحكمة تفويت ما قد يعبر أو يلوح من فرص تاريخية لدعم اقتصادات الدول، ومستقبل الشعوب، ولا بد من منافذ دبلوماسية لتحقيق أقصى الممكن من علاقاتنا بالقوى العظمى اقتصاديا، و في سياق كهذا لا يمكن إغفال الصين قوة اقتصادية عملت بجد لا لتضع بصمتها وحسب، بل لتشارك محوريا في تحريك مراكز القوى بعد أن كانت تراوح مكانها غربيا.

فضاءات من فرص اقتصادية يمكن أن تشرع بعد هذه الزيارة الصينية، وجسور لا تحصى يمكن مدها لدعم مبادرة "طريق الحرير الجديدة" إن كانت ستخدم مصالحنا ورؤيتنا لمستقبل اقتصادي تنموي واعد، وقنوات لا محدودة لتنويع شراكات الخليج دوليا. ولعلّ من نافلة القول ما يمكن أن تأتي به شراكة الصين من جدوى في تشتيت قبضة الشريك الواحد والتقليل من محاذيرها مستقبلا عبر تنويع الشركاء، والإفادة من الجميع لما فيه خير الخليج تحققا ورخاء وتنمية .

ولا نجد مناصا من موافقة الرئيس الصيني في مقالته: إن الصين بنت علاقاتها الدبلوماسية مع الدول العربية منذ الخمسينات من القرن الماضي على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وأنه بعد الدخول إلى القرن الـ21، تقدمت هذه العلاقات إلى الأمام بخطوات متزنة في ظل تغيرات الأوضاع الدولية، وحققت طفرات في الثقة المتبادلة سياسيًّا والمنفعة المتبادلة اقتصاديًّا والاستفادة المتبادلة ثقافيًّا.