نوافذ.. أنتَ لستَ أنا
تتشكل الثقافة الاجتماعية من مجموع الممارسات التي يقوم بها الأفراد، وهذه الممارسات تأتي إنعكاسا لكثير من المفاهيم التي يؤمن بها هؤلاء الأفراد، ومن ثم يسقطوها على الواقع، وأحيانا تكون الممارسة غير واعية، فقط لأن هناك من يمارس هذا الفعل، أو يومن بهذا المفهوم، والمشكلة الأكبر في هذا الجانب ليس فقط الممارسة غير الواعية لمجموع هذه المفاهيم، ولكن في تبنيها وبالتالي تصديرها إلى الآخر، وإلزام هذا الآخر لأن يكون وفق ما يؤمن به هذا المتبني للفكرة، أو للمفهوم.
ولأننا مرتهنون كثيرا على ما تفرزه الثقافة الاجتماعية، فإن معظم الأمثلة تنطبق على الممارسات الناتجة لهذه الثقافة، فلو أن فلانا من الناس يؤمن بفكرة الإلتزام بكل ما تمليه عليك القوانين الاجتماعية؛ وما أكثرها؛ فإن هناك من يرى ضرورة البقاء على هذه القوانين، دون أن يتيح لك فرصة أخذ القرار الفردي بعدم تبني نفس الفكرة، ويعد الخروج عنها عن ذلك نكران لجميل، وهذا يحدث كثيرا في العلاقات "اللصيقة" كعلاقات ذوي القربى، وعلاقات الصداقات القوية، وهذه الصورة لا تخرج كثيرا عن مفهوم "إن لم تكن معي؛ فأنت ضدي".
المشكلة الأخرى هنا أيضا هو تجاوز مجموعة من الاستحقاقات الموضوعية التي يكون قد اكتسبها الفرد خلال سنوات عمره، وخلال تجاربه الحياتية التي تختلف كثيرا عن الآخر، وخلال مجموعة المواقف والقناعات المتشكلة، وهي؛ غالبا؛ القناعات التي تنبع من الذات ارتكازا على أسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها الممكنات الذاتية التي تختلف من شخص لآخر، ولذلك يظل الخلاف مرتبط ارتباطا وثيقا بالإنسان أكثر من غيره من مخلوقات الله عز وجل، وقد وردت نصوص متعددة في القرآن والسنة، وفي أقوال مأثورة، كلها تذهب إلى أن الاختلاف سنة كونية، نقرأها حتى في توالي الليل والنهار، وفي حركة الأشياء، ولولا هذا الاختلاف لما وصل الإنسان اليوم إلى كثير من الاستحقاقات التي يطمح إليها.
ولذلك؛ ومن منظور واقعي؛ فلك أن تطرح فكرتك بكامل الحرية وتدافع عنها أيضا، ولكن ليس لك أن تجبر الناس على تبنيها، فالقناعات تختلف، والمواقف تختلف، وخبرات الحياة تختلف، فمثلا؛ في بيئات العمل وأثناء حضور الاجتماعات يظل أغلب المجتمعين موافقين على الفكرة التي يطرحها رئيس الاجتماع، وإن لم يطلب منهم ذلك، بل؛ ربما يود أن يسمع فكرة أخرى غير متفقة ما مع يطرحه، ولذلك عندما يمرر السؤال على هؤلاء المجتمعين "فردا فردا" للتعليق على الفكرة التي طرحها، يرد الجميع فيما يحمله معنى "كفيت ووفيت"إذا لماذا الاجتماع؟ وفوق ذلك قد ينبري أحدهم ويؤكد على أن فكرة رئيس الاجتماع لا تقبل النقاش، وقد يطالب بإنهاء الاجتماع.
يحدث هذا لأن الثقافة الاجتماعية رسخت في الذاكرة الجماعية أن الكل يمثل الكل، وهذا خطأ جسيم، فالكل لا يمثل إلا فرديته فقط، وهذا ما تعكسه القرارات الارتجالية؛ التي لا يعاد مشروعية إصدارها إلى طرف ثاني أو ثالث، وهذه الصورة من الأسباب الجوهرية في تأخر الوعي الجمعي بأهمية القرار الجماعي؛ والذي من مميزاته أن نتائجه يتحملها الجميع، وهذا الجميع؛ لا شك أنه سوف يبذل قصارى جهده لأن تكون نتائج قراراته فوق مستوى الطموحات التي ينتظرها الجميع، وعندما تشيع هذه الثقافة الـ "جماعية" يكون المجتمع بكل ثقله قد انتقل من حالة التشرذم والاختلاف؛ حيث المناخات الخاصة جدا، إلى حالة الاتحاد والتوافق؛ حيث؛ تحمل المسؤوليات الجسام، خاصة لما ترتبط المسألة بالوطن، أو بالأسرة كأصغر مثال.
