"عُمان" وخمسون عاما من الصحافة الجادة
يمثل تاريخ الثامن عشر من نوفمبر 1972 ولا يزال يوما مهما في تاريخ الصحافة العُمانية. في هذا اليوم وصبيحة احتفال عُمان بالعيد الوطني الثاني لتولي السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه - الحكم، صدر العدد الأول من جريدة "عمان"، التي حافظت على استمرارها طوال هذه السنوات، لتصبح على مدار عمر النهضة وحتى اليوم، صوت الدولة والشعب والحكومة، ملتزمة بنهجها الجاد والموضوعي في دعم النهضة الوليدة وإشاعة خطاب السلام الوطني والإقليمي.
يقول الأستاذ الدكتور محمد سيد محمد أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة ومؤسس قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس -رحمه الله- في كتابه "الصحافة بين التاريخ والأدب، إن "بين الصحافة والتاريخ نسب وثيق" في إشارة واضحة إلى ما يجمع هذين العلمين وتجعلنا نهتم بدراسة تاريخ الصحافة من جانب والاستفادة من التسجيل اليومي للأحداث الذي تقوم به الصحف في التاريخ السياسي والاجتماعي للمجتمعات الإنسانية من جانب آخر. ولعل ما يدفعنا إلى إثارة هذا الموضوع المهم في هذا التوقيت هو الاحتفال بمرور نصف قرن على صدور صحيفة "عمان" الغراء، وهو أمر يثير الشهية للحديث عن ضرورة الاهتمام بالتراث الصحفي لصحيفة "عمان" بوجه خاص، والصحافة العُمانية بشكل عام وحفظه ماديا ورقميا، وإتاحته سواء للباحثين في الصحافة أو تاريخ عُمان المعاصر.
واقع الحال أن النسب بين التاريخ وبين الصحافة يتخذ عدة أشكال تتمثل في موقع كل منهما على خريطة العلوم، وموضوع كل منهما، والقائم بالعمل في كل منهما. فالتاريخ والصحافة يهتمان في الأساس بتتبع النشاط الإنساني في تفاعله مع الطبيعة ومع الوسط الإنساني المحيط به. والتاريخ والصحافة يجعلان من النشاط الإنساني محورا لاهتماماتهما، ويدخلان معا، كما يقول الدكتور حسنين عبد القادر في كتابه "الصحيفة كمصدر للتاريخ"، في دائرة العلوم الاجتماعية ذات الطابع الإنساني، وكلاهما يدون قصة البشرية ويسجل الأحداث الإنسانية والطبيعية، ويتناول الظواهر الاجتماعية والأعمال الفردية المؤثرة في حياة الجماعة بالدراسة والنقد والتحليل والتعليل.
ويعتبر التاريخ معملا للعلوم الاجتماعية ينمي معرفة الباحث بالإنسان ومجتمعه ويثري أفكاره، ويعطيه عمقا في البحث والدراسة. ومنذ أن أصبح المؤرخون لا يكتفون بوصف الحوادث الفردية وبيان تتابعها فحسب، وحاولوا الكشف عن العناصر الجوهرية في النظم السياسية والاجتماعية لكي يقفوا على أسباب الظاهرة التاريخية، "أصبحوا أكثر شبها بعلماء الاجتماع". هذا بالإضافة إلى أن الظواهر التاريخية في جوهرها ظواهر اجتماعية محدودة في الزمان والمكان، خاصة أن "التاريخ كمعنى يهتم بتتابع النشاط الإنساني في تفاعله مع الطبيعة ومع الوسط الإنساني المحيط به"، وأن موضوع التاريخ هو الإنسان.
وتدخل الصحافة وعلوم الاتصال في دائرة العلوم الاجتماعية، وتهتم في الأساس بالنشاط الإنساني سواء في تفاعله مع الطبيعة أو مع الوسط الإنساني المحيط به أيضا. ومن هنا فإن التاريخ والصحافة يجعلان من النشاط الإنساني محورا للاهتمام، و"يدخلان معا في دائرة العلوم الاجتماعية ذات الطابع الإنساني، وكل منهما يدون قصة البشرية، ويسجل الأحداث الإنسانية والطبيعية، ويتناول الظواهر الاجتماعية والأعمال الفردية المؤثرة في حياة الجماعة بالدراسة والنقد والتحليل والتعليل.
وإذا كان التاريخ ليس له مادة موضوع محدد، فإن الصحافة أيضا ليس لها مادة موضوع محدد على اعتبار أن مجالها متسع اتساع المصالح البشرية نفسها. وليس هناك شيء مما يفعله الإنسان أو يصنعه يقع خارج نطاق الاستقصاء التاريخي وكذلك الاستقصاء الصحفي. وإذا كان التاريخ العام يجمع شتات التواريخ متباينة الموضوعات، فإن الصحافة أيضا تجمع مثل هذا الشتات بما في ذلك التاريخ نفسه، وذلك إلى الحد الذي يمكن أن تردد فيه الصحافة مقولة التاريخ عن نفسه "لا أعتقد أن هناك شيئا قط على وجه الأرض غريبا عني".
ويكمن الخلاف الموضوعي الوحيد تقريبا بين التاريخ وبين الصحافة في الدائرة التي يعمل فيها كل منهما. فبينما يعمل التاريخ في البحث في أحوال البشرية في الماضي، فإن الصحافة تهتم في الأساس بالبحث في دائرة الحاضر، وتضيف إليها دائرة المستقبل، وأحيانا دائرة الماضي حال ظهور حقائق تاريخية جديدة تتعلق بحدث من الأحداث. وبينما يعالج التاريخ الأحداث الماضية تعالج الصحافة الأحداث الحالية والجارية والمتوقعة والوشيكة الوقوع.
وعلى جانب ثان.. هناك قدر كبير من التشابه بين عمل وصفات كل من المؤرخ والصحفي. وتكاد الصفات الواجب توافرها في المؤرخ والصحفي أن تكون واحدة. ويتشابه المنهج الذي يسير عليه كل منهما في الكتابة مع اختلافات بسيطة تتمثل في عامل الزمن الذي يعمل كل منهما داخله. فالمؤرخ يعمل في دائرة الماضي فحسب، بينما يعمل الصحفي في دائرة الحاضر والمستقبل ويتجاوزها في بعض الأحيان ويعمل مثل المؤرخ في دائرة الماضي. وهناك من الكتابات الصحفية ما يرقى إلى مرتبة التاريخ الجيد. ومن جوانب الاختلاف بين الاثنين أيضا أن مصادر المؤرخ تتمثل في سجلات الماضي بما تحوي من وثائق رسمية وغير رسمية ومذكرات وذكريات ومراسلات تاريخية، ولا تشمل الملاحظة الشخصية والمصادر البشرية الحية سوى في بعض الحالات النادرة. في المقابل فإن الصحفي يعتمد في الأساس على مشاهداته وملاحظاته الشخصية ومصادره الحية، وإن كان -خاصة في الصحافة الاستقصائية- كثيرا ما يعتمد على الوثائق والسجلات. ورغم الاختلافات السابقة فإن المؤرخ والصحفي يهتمان بتتبع النشاط الإنساني.
وتتشابه الصفات الواجب توافرها في المؤرخ وفي الصحفي. فكما أن المؤرخ يحتاج وفقا لما قاله ابن خلدون، إلى "العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأمصار، والسير والأخلاق، والعادات والتقاليد، والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، ويحتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت، وإحكام أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في المجتمع الإنساني، فإن الصحفي يجب أن تتوافر فيه هذه الصفات فيما يسمى بثقافة الصحفي الأساسية مثل الإحاطة بالمعارف المتصلة بالتاريخ السياسي واللغات والترجمة والقانون والاقتصاد السياسي والجغرافيا السياسية، والعلاقات الدولية، والإلمام بالمذاهب الاجتماعية والاقتصادية القديمة والحديثة، وأن يكون لديه، كما يقول عالم الاتصال العربي الراحل الدكتور خليل صابات، "الإحساس المرهف بالحياة، وأن يفهم الناس ويحبهم كما هم".
وتتشابه العلوم المساعدة لكل من المؤرخ والصحفي، إذ من الضروري أن يكونا واسعي الثقافة، وعلى دراية جيدة بالعلوم المختلفة. فالمؤرخ ينبغي عليه أن يلم بلغة أو أكثر من اللغات الأوروبية الحديثة الشائعة الاستعمال، كالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية أو الإسبانية. ولا شك أن الصحفي لا بد له من إجادة إحدى هذه اللغات التي أصبحت في الصحافة الحديثة على درجة كبيرة من الأهمية في عالم تحول بفعل ثورتي الاتصال والمعلومات، وكما قال المنظِّر الإعلامي الكندي الراحل "مارشال ماكلوهان" في منتصف القرن العشرين إلى "قرية عالمية صغيرة". وإلى جانب اللغات فإن المؤرخ والصحفي يجب أن يكونا على دراية جيدة بعلوم الجغرافيا والاقتصاد وفنون الأدب والرسم والتصوير والموسيقي بجانب التاريخ ذاته.
في ضوء هذه العلاقة القوية بين التاريخ وبين الصحافة وبمناسبة مرور خمسين عاما على صدور صحيفة "عمان"، فإننا ندعو المؤسسات الأكاديمية والبحثية والمؤسسات ذات العلاقة بالتراث والثقافة والإعلام بسلطنة عمان، إلى المبادرة بتأسيس برنامج أكاديمي وبحثي في تاريخ الصحافة العُمانية، يوثق دورها في النهضة الحديثة، ويبدأ عمله بكتابة تاريخ هذه الصحافة، وإعادة كتابة ما كتب منه وفق منهج بحثي واضح يأخذ في اعتباره السياق التاريخي الذي ظهرت فيه الصحف العمانية الأولى على أرض عُمان في بداية سبعينيات القرن الماضي. وكل خمسين عاما وعمان الدولة والشعب والصحيفة بخير وازدهار.
