أول الغيث في الإدارة اللامركزية للمحافظات
تمر عطلة العيد الوطني هذا العام مع اختلافٍ في تلمس أول الغيث؛ بواكير تفعيل دور الإدارة اللامركزية للمحافظات، لا يمكن لذلك أن يخفى أو ينكر، خصوصا إن كان الحديث عن محافظتي شمال الباطنة والداخلية، كيف يمكن على سبيل المثال إغفال مهرجان صحار الذي نجح في استقطاب ما يزيد عن 145 ألف زائر خلال أيام قليلة وفقا لمنظميه؟ أم كيف يمكن غض النظر عن فعاليات محافظة الداخلية ممثلة في نزوى وغيرها من ولايات المحافظة خصوصا في سياقها التراثي الأصيل اجتماعيا واقتصاديا؟
كان الحديث عن اللامركزية الإدارية لسنوات مضت آمالا وأحلاما مكرورة تراود الجميع حول تمكين الإدارة المحلية في المحافظات سعيا لتسريع وتفعيل دور الأطراف في دعم وتعزيز رؤى المستقبل المأمول للبلاد، سواء لتسهيل الخدمات وتوزيعها العادل بين المحافظات أو للمساهمة في تنفيذ رؤية 2040 المتضمنة تفعيل الإدارة اللامركزية، حتى أصدر صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه المرسوم السلطاني رقم (36/2022) الذي يقضي بإصدار نظام المحافظات الموضح لصلاحيات المحافظين وتوسيع رقعتها ومجالاتها تمكينا إداريا محليا يعمل على استغلال موارد المحافظات بشريا وطبيعيا وتراثيا، وتفعيلها بشكل يضمن لها إنتاجيةً قصوى واستدامةً ملموسة من خلال مساهمة أبناء المحافظة تخطيطا وتنفيذا.
ولتعزيز ذلك ماليا يأتي أمر جلالة السلطان برفع مخصصات برنامج تنمية المحافظات من 10 ملايين ريال عماني إلى 20 مليون ريال عماني لكل محافظة خلال الخطة الخمسية الحالية، وهي ميزانية يمكنها أن تحدث فرقا في تنمية المحافظات، كما يمكنها خلق منافسة بين المحافظين لتقييم كيفية استغلال هذه المخصصات لتنفيذ مشاريع حيوية إنتاجية تعود بالنفع على المحافظة بشكل خاص وعلى السلطنة عموما عبر شراكتها في خلق فرص عمل لشبابها، وتوفير متنفسات لعوائلها من مواطنين ومقيمين، فضلا عن إسهامها في دعم مشاريع قادمة لكل محافظة في خططها الخمسية مستقبلا.
هذه الخطط التي استقرأت آراء أبناء المحافظة في مجالات عدة، وبُنيتْ على حصر وتقدير مواردها وإدراك تحدياتها في محاولة لتذليل صعوباتها وتحدي عقباتها المرحلية لا بدّ أنها ستقف شاهدا ملموسا بمنجزات واقعية تعكس نجاحا إداريا، وتكاملا مجتمعيا مأمولا، كما تعد بمشاريع أفضل مستقبلا لا مراء فيه ولا جدال بعد شفاعة ما هو متحقق بالفعل آنيا.
ومع كل هذه المعطيات والموارد المختلفة والمتنوعة للمحافظات، و مع إدراك الصعوبات والتحديات التي قد تختلف من محافظة إلى أخرى، فإن الرهان الحقيقي سيكون على المنجز الحقيقي الواقعي بعد خمس من هذا التمكين وهذه الصلاحيات، حينها ستكون المنافسة في أجلّ صورها، واختبار الإدارة الحقيقية في أوضح سياقاتها، ليس في مجرد سرد وإثبات مصروفات إنفاق هنا وهناك، بل في تحقق مشاريع استثمارية تحقق الاستدامة وتضمن تنمية اجتماعية واقتصادية للمحافظة وسكانها، كما أنها تعكس حكمة في توزيع وتوجيه ميزانيتها وفق أفضل الممكنات.
هذا التنافس مع تفعيل الحوكمة المؤسسية ومشاركة الأفراد سيصل بنا إلى أفكار مختلفة لمشاريع واقعية تغير من واقع المحافظات إيجابيا، وتضمن للمجتمع العماني تحقق جدوى الإدارة اللامركزية، إن كنا بدأنا (كأفراد) تلمس تفعيل بعض المحافظات لإدارتها المحلية عبر تغيير واقع محافظاتها إيجابيا فلا بد أن الغد يحمل الكثير من دهشة لمشاريع أخرى قيد التنفيذ في جميع المحافظات، منجزات ستقف شاهدا لبراعة التخطيط وحسن التدبير.
هذه الفترة من عمر الإدارة اللامركزية فترة مصيرية للمحافظات، وينبغي أن تكون مؤشرا لما سيأتي مستقبلا من زيادة الصلاحيات وتأكيد الجدوى؛ لذلك لا بد من تعزيزها عبر ممكنات إدارية تتضمن الحوكمة "بما فيها من تقييم وتعزيز ومحاسبة" لتحقيق كفاءة الأداء والقدرة على اتخاذ القرارات بالتزام عالٍ وقدرٍ كافٍ من المسؤولية والشفافية، كما تتضمن الإفادة من التقنية لتأسيس شبكات خدمية رقمية توفيرا للجهد والمال والوقت، كما تتضمن قدرة المخططين على جذب الاستثمار محليا أو خارجيا، لا بد من كل ذلك وإلا صارت اللامركزية وبالا إن قيدتها البيروقراطية التقليدية أو عطلتها المحسوبيات نفعيا أو قبليا، وضمن هذا السعي جاء تدشين الأكاديمية السلطانية للإدارة خلال هذه الأيام لبرنامج "المبادرة الوطنية لتطوير الإدارة المحلية" التي تستهدف المحافظين، ورئيسي بلدية مسقط وظفار تعزيزا لقدراتهم في مجالات الحوكمة واللامركزية الإدارية والاقتصادية و تأكيدا لوجود الكفاءات الوطنية إدارة وقيادة.
ستتباين منجزات المحافظات يقينا مع انتهاء مدة الخطة الخمسية الحالية، آملين أن تصل جميعها إلى شراكة تنموية حقيقية رافدا واقعيا لغد أفضل، ليس عبر حصر خطط المحافظات في إطارها الجغرافي والإداري وحسب، بل في خلق شراكات بينية تصل بين محافظتين متجاورتين أو مجموعة محافظات عبر مشتركات يدركها واضعو خططها الاستراتيجية اقتصاديا وتنمويا، و متابعة مسارات تنفيذها واقعيا.
ينبغي على كل فئات المجتمع مؤسسات وأفرادا التكاتف والسعي لإنجاح مساعي خطط ومشاريع المحافظات عبر إدارتها المحليّة، والوصول بها إلى منجز تنموي نفخر به جميعا، سواء عبر التقييم والنقد الذاتي المستمر، أو المشاركة في دراسة المتغيرات ووضع تصورات مقترحة تصل بنا جميعا إلى تحقق المأمول وشمولية المشاركة.
