تأملٌ في جائزة للمسرح

15 نوفمبر 2022
15 نوفمبر 2022

حصد المسرح العماني بذور ما زرعه لسنوات، حيث أعلن مؤخرًا عن الفائز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة 2022م النسخة المحلية في فرع الفنون / مجال الفرق المسرحية، وتوجت فرقة مسرح الدن للثقافة والفن بالجائزة، التي تُعد حسب تقديري أكبر جائزة في الخليج والوطن العربي، حيث يُمنح الفائز وسام السلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، بالإضافة إلى مبلغ مالي قدره خمسون ألف ريال عماني.

جدير بالتأمل الوقوف عند جهد السيرة الذاتية لهذه الفرقة، فالجائزة التي نالتها، هي تقدير مستحق لفرقة تماهت مع فكرة وجود حكاية تريد أن تحكيها للناس، فالدّن حكاية مسرح أشهرت في 06/ 10/ 1998م، وحكاية مؤسسة ثقافية استطاعت منذ تأسيسها في 20/ 12/ 1994م خارجة من قرية صغيرة اسمها الدّن بولاية سمائل بمحافظة الداخلية، وبعدد ثمانية أعضاء، التحرك إلى مجال أكبر يتسع لطموحاتها ورؤاها في داخل سلطنة عمان سلطنة وخارجها.

درج المسرحيون منذ تأسيس الحركة المسرحية في سلطنة عمان الاتكاء على حسّ الموهبة (والقرابة) للانتساب إلى الفرق الأهلية، وقد تنجح مثل هذه الاتكاءات لكن النوايا الطيبة لا تبني لنا مسرحا، إن عدم إيلاء اهتمام لمفهوم الفكر المؤسسي المبني على استراتيجية عمل واضحة ومستمرة، أحد النوافذ التي ستطير منها أجنحة المسرح. لذلك يشهد المتابع للحراك المسرحي ظهور عدد غير معقول من الفرق المسرحية المكونة من أعضاء تراهم ينتقلون فيما بينهم في أوضاع داخلية تخصّهم، وقد غلب هذا السلوك على العديد من الفرقة في الخليج، فتظهر فرقة تحمل مشروعا ثم ينقسم المنتسبون إليها ويدب بينهم الخلاف والشجار فيركضون لحل الخلاف إلى تأسيس فرقة أخرى، لتضيع جهود التأسيس أو يجري غربلتها بعشوائية فلا تكاد تتعرف على ملامحها، وهكذا تشتبك الظاهرة الفنية للمسرح مع ظواهر مجتمعية وعلاقات مصاهرة عجيبة وغريبة.

أعود بالذاكرة إلى جهود مسرح النادي الأهلي في عُمان وحرصه على توثيق تجربته في كتاب صغير كان له الأثر الجيد لتقدير جهد الريادة. في كتابي (مغامرة النص المسرحي في عُمان مسرحيات النادي الأهلي أنموذجا) خصصت هامشا عن ذلك الكتاب بعنوان: (المسرح في النادي الأهلي بسلطنة عمان -64 صفحة) وكتبت حول هذه النقطة ما يلي: «إن قيمة هذا الكتاب تنبع من عنايته بالتوثيق الدقيق للعديد من التفاصيل المؤرخة للحركة المسرحية بالنادي. وهي تفاصيل تجهلها الفرق المسرحية الأهلية في عمان بسبب عدم توفر هذا المطبوع...إلخ» لماذا أعود إلى هذه الجزئية؟ أعود إليها لأن فكرة وجود سيرة ذاتية لفرقة لديها أهداف وطموح وخطط مسألة في غاية الأهمية، وهذا ما جعل النقاش في ذلك الوقت عند وضع اللائحة المنظمة للجائزة يجري حوله الجدل الكثير. لأن غالبية كبيرة من الفرق لا تكترث، بل تجتهد في وضع العراقيل وتكوين الأحزاب في حين لا تملك الوقت لترتيب بيتها من الداخل!

في كتاب سيرتها الذاتية حرصت فرقة الدّن على تقديم ثماني نقاط: نشأة الفرقة، الهيكل التنظيمي للفرقة، مجالات عمل الفرقة، الجوائز المحلية والدولية، المشاركات المحلية والدولية، مهرجان الدّن الدولي، وأعضاء الفرقة البالغ عددهم (92) عضوا.

عندما توقف مهرجان المسرح العماني، نشط المسرحيون لاتخاذ خطوة مهمة، تمثلت في تأسيس مهرجانات محلية لاستدامة الحركة المسرحية في عموم عُمان. ففي ورقته البحثية المعنونة: (نصوص المهرجانات المسرحية في سلطنة عمان بين سياق الكلمة ودلالة اختيار الفعل) يرصد الدكتور سعيد السيابي نحو (12) مهرجانا مسرحيا من الأقدم إلى الأحدث، قائلا: «هناك العديد من المهرجانات المسرحية التي أقيمت على أرض سلطنة عمان وشاركت فيها الفرق المسرحية بشقيها الحكومي والأهلي، وهنا رصد لهذه المهرجانات: أولا: خريطة المهرجانات التي أقيمت في سلطنة عمان - من الأقدم للأحدث وتشمل: مهرجان فرق مسارح الشباب (الهيئة العامة للشؤون الرياضية والثقافية سابقا 1990م)، ومهرجان المسرح الجامعي (جامعة السلطان قابوس 1996م)، ومهرجان مسقط: أيام جمعة الخصيبي المسرحية (بلدية مسقط 1999م)، ومهرجان المسرح العماني (وزارة التراث والثقافة 2004م)، ومهرجان أيام الكليات التطبيقية (وزارة التعليم العالي)، ومهرجان مسرح الطفل العماني (فرقة مزون الأهلية المسرحية 2007م)، ومهرجان المسرح المدرسي (وزارة التربية والتعليم 2009م)، ومهرجان المونودراما (جامعة السلطان قابوس 2010م)، ومهرجان المسرح الشعبي (الجمعية العمانية للمسرح2011م)، ومهرجان وبل المسرحي بالرستاق (نادي الرستاق الرياضي2012م)، ومهرجان البانتومايم (فرقة صلالة الأهلية المسرحية 2013م)، ومهرجان الصحوة المسرحية (فرقة الصحوة المسرحية بمسقط) ويمكن إضافة مهرجان الرستاق العربي للمسرح الكوميدي، ومهرجان فرقة مسرح البن لمسرح الغرفة. عندما فكر القائمون في فرقة الدّن على إطلاق مهرجانهم المسرحي، خرجت النسخة الأولى عام 2015، والثانية جاءت أكثر تخصيصا تحت مسمى مهرجان الدّن العربي لمسرح الطفل والكبار والشارع عام 2016م، أما النسخة الثالثة فأقيمت في 2018م، على أمل أن تكون النسخة القادمة تحت مسمى مهرجان الدّن الدولي، ولا شك أن المؤسسين كانوا يفكرون في النجاح، ويعملون على استمرارية البحث عن النجاح، وما كان ذلك ليتأتى عبر الفوز بجائزة من هنا أو هناك فهذه الجوائز ليست دليلا على أن الفاعل المسرحي بلغة آن أوبرسفيلد قد عمل عملا جيدا وأن عمله سوف يستمر معه إلى الأبد! وأثبتت تجارب المسرحيين الجادين والمخلصين للممارسة المسرحية أن مواصلة البناء على الأساس هي التي تستحق التقدير والمتابعة، لهذا حصرت فرقة الدّن مجالات اشتغالها على النحو الآتي: «إنتاج العروض المسرحية (الطفل، والشباب، والكبار، والشارع، والدمى، والحكواتي)، وتقديم الدورات التدريبية المسرحية بالتعاون مع الفرق المسرحية والرياضية والمؤسسات الأكاديمية والجمعيات الأهلية، وتنظيم مهرجان الدّن الدولي، وإنتاج المواد الإعلامية والأفلام التوثيقية والترويجية من خلال الفريق الإعلامي بالفرقة، وإخراج الفعاليات الثقافية والفنية بمختلف أنواعها»، وما كان لهذه المجالات أن تحقق نفسها إلا من وراء هيكل تنظيمي للفرقة مكون من رئيس مجلس إدارتها، والمستشارون وإدارة مهرجان الدّن، ويندرج تحتهم: رئيس فريق التدريب، ورئيس الفريق الفني، ونائب رئيس الفرقة، ورئيس العلاقات والإعلام، وأمين السر، وأمين الصندوق. بالنسبة إلى التدريب فينقسم إلى فريقين، الأول للدورات الدولية، والثاني للمحلية. ويتبع الفريق الفني كل من: المخرجون، والمؤلفون، والممثلون، والفنيون، ويندرج ضمن الفنيين ثلاث فرق للسينوغرافيا وإدارة الخشبة وإدارة الإنتاج. أما العلاقات العامة فيندرج ضمنها فريق العلاقات العامة والفريق الإعلامي، وفريق التسويق. كل هذا ينقلنا إلى النقطة الأخيرة، إن معوقات الإنتاج المسرحي لا تتوقف، والاعتماد على الدولة أو الحكومة لدعم الحركة المسرحية سيظل موجودا، لاسيما بعد جائحة «كوفيد-19» التي أرغمت السياسيات الثقافية إلى تخفيض ميزانياتها، فالعبء يقع على عاتق الفرق المسرحية الأهلية، وعليه، فإنّ أهمية وجود برنامج وطني تنويري يستهدف تحفيز المجتمع والقطاع الخاص إلى دعم هذه الفرق ضرورة مجتمعية وفنية واقتصادية.

وعلى هامش تتويج فرقة الدّن للثقافة والفن بالجائزة أسدل الستار عن فعالية مهمة هي مهرجان ظفار المسرحي الذي أقيم في مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه في الفترة من 10-15 نوفمبر 2022م وقد شاركت فيه خمس فرق أهلية مسرحية هي: « فرقة مرباط الأهلية بعرض خرم إبرة، وفرقة طاقة بعرض مجرّد بورتريه، وفرقة أوفير بعرض أنصاف، وفرقة صلالة بعرض غشم، وفرقة أوبار بعرض النقطة السوداء».

لمهرجان ظفار المسرحي ذكرى خاصة تعود إلى عام 2014م عندما هاتفني الأخ العزيز الفنان والمخرج المسرحي الراحل محمد بن سهيل اليافعي المهندس لأكون ضمن لجنة تحكيم المهرجان. كانت الأفكار والطموحات بمهرجان سنوي يتجدد ويمضي جامعا ضفتي الثقافة والترفيه جنبا إلى جنب، لكن المهرجان توقف، وسار كل في طريقه، حتى استيقظنا تاريخ 22 أكتوبر 2022م برسالة النعي، ولأنّ الحياة مستمرة، فالمسرح مستمر والتفكير فيه هو الشغل الشاغل، فعاد مهرجان ظفار من خلال فرقهِ المشاركة وعروضه المتنافسة ليعيد شيئا من الجمال إلى حياة المسرح والناس والثقافة، استمرارية المسرح هي جائزتنا الكبرى.