تصنيع الوهم وتسويق الأحلام بين إفلاس منصة وانتخاب موتى
يعيش العالم اليوم أوجه في القدرة على الإتجار بالوهم عبر تسويقه واقعيا ورقميا، كل ذلك من خلال آلة إعلامية يمكنها صنع دولة من ورق، أو ثروة من تفاعلات رقمية مجانية. يحدث كل ذلك ليس ونحن نعيش مرفهين في عالم مترف، وإنما يحدث ونحن نعايش عالما مليئا بالتحديات لإنسانه البسيط، وأحلام هذا الإنسان المبعثرة بين لقمة العيش وأحلام الثراء الفاحش.
ولم يفوت الاستغلاليون من الساسة والتجار تلك الفرصة في تحليل ثم استغلال ذلك الواقع من التحديات اليومية والأحلام الدائمة لدى الناس. ولعلّ ما جعل تلك الرؤى تطفو على السطح خلال هذه الأيام أخبار مصدرها الغرب (أمريكا تحديدا)، وقدرة أمريكا الفائقة والمدهشة على تصنيع وتسويق الوهم، ليس بين سكانها وحسب وإنما عالميا.
الحدث الأول والذي لا تكاد تخلو منصة إخبارية منه اليوم هو إفلاس منصة "إف تي إكس" التي توسعت بعدما أُسّست عام 2019م، وارتفعت قيمتها سريعا إلى 32 مليار دولار في يناير/كانون الثاني 2022 .
منصة "إف تي إكس" أسّسها المتداول السابق في "وول ستريت"سام بانكمان-فرايد والموظف السابق في "غوغل" غاري وانغ لتكون المالك والمشغل لموقع تبادل العملات المشفّرة.
أربعة أعوام فقط ملأى بالتداولات الرقمية وتراكم الثروة لشاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، شاب نام مليارديرا (قدرت ثروته قبل شهرين من الإفلاس بما يقارب سبعة عشر مليارا) ليصحو يوم الجمعة الموافق للرابع من نوفمبر مفلسا تماما، بل ومتورطا في دين لا يملك سداده، حصل الإفلاس بعد تعثر منصة تداول العملات في جمع المليارات لمنع الإفلاس بعد أن سارع المتداولون لسحب 6 مليارات دولار منها خلال 72 ساعة فقط، إثر علمهم بعملية احتيال واختفاء ما لا يقل عن مليار دولار لا يعرف لها طريق في هذه البورصة.
هذه الأرقام الفلكية في التداولات الرقمية لم تكن رقمية العلاقات والمصدر وإلا لكان إفلاسها أخف ضجة وأوهى دويّا، بل كانت تعاملات دولية مع كثير من مساهميها وشركائها سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات دولية مختلفة الموقع شرقا وغربا.
كيف يمكن أن تجري معادلة الخبرات التراكمية عالميا وحتى شعبيا مع الوقوع في شرك السعي للثراء السهل السريع، وتداول الوهم وتسويقه؟
الحدث الآخر يقع على مسرح الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي، حيث قالت وسائل إعلام أمريكية، إن النائب المتوفى توني ديلوكا، أعيد انتخابه مجددا بغالبية ساحقة عضوا في برلمان ولاية بنسلفانيا خلال انتخابات منتصف الولاية! ديلوكا توفي في التاسع من أكتوبر الماضي عن عمر ناهز الخامسة والثمانين، لكن الأوان كان قد فات لإزالة اسمه من القوائم الانتخابية ليفوز بمقعده بنسبة 85% من الأصوات مع فرز 98% منها.
وبعيدا عن التبرير غير المقنع حتى لأضعف دائرة انتخابية، يراد لهذا الخبر أن يعبر عن ديمقراطية أمريكا واحترامها للنظام الانتخابي. لكن لا يمكن لأي محلل أو حتى مجرد متدبر عابر إلا أن يعبر عن سخريته من عجز النظام الانتخابي الأمريكي على وجود بدائل آنية لطارئ كالوفاة. وهو تحديدا ما عبر عنه-ساخرا وشامتا في آن- رئيس مجلس الدوما الروسي، فياتشيسلاف فولودين، معتبرا "الأرواح الميتة" التي فازت مؤخرا في الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي مؤشرا على تناقضات أمريكا، وفي تعليقه على الأنباء حول فوز الديمقراطي توني ديلوكا، والديمقراطية باربرا كوبر، اللذين توفيا في أكتوبر الماضي، كتب فولودين في صفحته على "تلغرام" يوم الجمعة: "يدل هذان المثالان على أن المعايير التي تروج لها الولايات المتحدة لا قيمة لها، والنظام السياسي الأمريكي ميت حرفيا" معرضا بسعي أمريكا الدائم لانتقاد النظام الانتخابي الروسي، والحقيقة لا نملك إلا أن نشاركه الرأي والربط والتحليل .
ربما يساعد الانفتاح الرقمي حول العالم على استقراء وتحليل كل هذه الأمثلة من سعي بعض الدول والأفراد على تصنيع الوهم وتسويقه، ثم بيعه على الدول والشعوب حرصا على سيطرة دائمة غير مكلفة على ثروات و حكومات و موارد حول العالم، ولكن لا ينبغي لهذا الانفتاح إلا أن يساعد (ولو بعد حين) على التخلص من كل ذلك عبر احترام العقل وتوظيفه توظيفا تحليليا فاعلا يسهم في حماية الشعوب من الوقوع في أشراك الوهم ومصائد التوجيه.
وبين انهيار منصة تداول الأوراق الرقمية وانتخاب الموتى لا يجد المتلقي مناصا من إعمال عقله وتدبر واقعه، قادرا على صنع منصاته التداولية الإنتاجية محليا بعيدا عن منصات الوهم الرائجة، متمكنا من صياغة أنظمته الداخلية المناسبة لمجتمعه وظروفه بعيدا عن ادعاءات المثالية النظرية دوليا.
