نوافذ : كثير من الناس..

11 نوفمبر 2022
11 نوفمبر 2022

shialoom@gmail.com

لا تسجل الكثرة ذلك البعد الذاهب إلى تأصيل فكرة أن الكثرة يمكن أن تؤسس مناخا مهما يمكن الاعتماد عليه في كل الأحوال، وذلك لأن الكثرة لا تزال موضع اتهام، وموضع تهكم، موضع مضرب مثل للفوضوية، وفي المقابل تسجل القلة حضورا مهما مناقضا لكل ما ما يمكن أن يعاب به الكثرة، ولعل هذه من الإشكالية الموضوعية التي تعاني منها الكثرة، هل لأنها يصعب تنظيمها، وتوظيفها، وتوجيهها؟ أم أن كما يقال: «البركة في القليل» أو «كثرتهم وقلة بركتهم»؟ فوصف الكثرة بالقطيع «عقلية القطيع «على سبيل المثال؛ يندرج تحت تقييم الكثرة، ووصف الكثرة بالدهماء، وتجريدها من كثير من استحقاقاتها المعرفية، والوجاهية، والموضوعية، والتراتبية؛ لأنها قاعدة الهرم السكاني؛ يأتي اتساقا مع هذا التقييم، ووصفها بالعامة؛ كأن العامة ليست لها قيمة معنوية؛ أيضا لا يخرج عن هذا التقييم، مع أن للكثرة في التراث الإنساني قيمة أخرى، فيقال: «الكثرة تغلب الشجاعة»، وبقدر ما يشار إلى الكثرة على أنها عناوين للانتصارات، وعلى أن الغلبة في صفها؛ بقدر ما يشار على أنها تعكس مواقف سلبية في كثير من تموضعاتها المختلفة، وأنشطتها، وسلوكياتها، وممارساتها، حيث يتنحى العقل جانبا، وفق هذه الصورة، وتبرز العاطفة الانفعالية المؤقتة كبديل عن استحكامات العقل ورجاحته، حيث تتجاوز الرؤية واقعيتها؛ وبذلك تصبح الكثرة معابة، ولا تنزل منزلة مباركة، وقد حفلت آيات القرآن الكريم بالكثير من توصيفات الكثرة على أنها الجاحدة للنعمة والشكر، وأنها الصادة للتعليمات والتوجيهات الربانية؛ حيث جاءت النصوص القرآنية تؤكد على: (أكثرهم فاسقون)، (ولا تجد أكثرهم شاكرين)، (وقليل من عبادي الشكور)، (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون).

الإشكالية هنا؛ أكثر؛ هي أن الكثرة؛ بحكم هذا التقييم؛ هي من تثير القلاقل، وهي من تثير النعرات، وهي من تركن إلى الفوضى، وهي من تذهب إلى الصدام، وهي من ترى أنها من يتصدى لمصالح الناس، وهي من يُنَظِّرُ في القليل والكثير، والصغير والكبير، دون أن تمتلك أدنى رؤية يمكن أن تعزز عليها موقفها، ولذلك هي تمتحن في إرادتها؛ فليس باستطاعتها أن تحدد إرادة كل فرد فيها؛ فالجميع منضوي تحت عباءة الكثرة، وتمتحن في قوتها؛ حيث تتماهى هذه القوة مع أول جدار يوقف زحفها فلا يبقى لها أثر بنفس حماس تشكلها في الخطوة الأولى، وذلك ما نراه في مواقف التظاهر، وتمتحن في مواقفها؛ فعند الجادة لن تجد معك ذلك الطابور الطويل من المؤيدين للفكرة التي طرحتها، وبدأت في تنفيذها، حيث ينفض عنك الغالبية العظمى، ولا تجد إلا نفسك في ميدان المواجهة.

وفي المقابل نجد أن الغلبة للقلة؛ وذلك بحكم تكورها على معززات قوتها من المعرفة والتنظيم والتخطيط، والعقلانية، والروية، والرؤية الاستشرافية، كما امتدحت في نصوص القرآن الكريم (وما آمن معه إلا قليل)، (إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم)، (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليل منهم) وفي حيواتنا الاجتماعية الكثير من المواقف والأمثلة «البركة في القليل» التي تعزز دور القلة، وعلى امتداد الهرم الاجتماعي صعودا تأخذ القلة مكانتها في كل مجالات الحياة، وتخلق واقعا مهما يحظى بالكثير من التقدير، والعناية من قبل أبناء المجتمع، وهذا ما تتوارثه الثقافة الاجتماعية، وتقتنع به على أنه الخيار الأمثل، وعلى الرغم من قلتها إلا أنها مؤثرة وفاعلة، ربما لتقلص مساحات الفراغ الذاهبة دائما إلى التشتت، وعدم التركيز.