الحرب في أوكرانيا.. لنفتش عن الجذور!
لا شك أن الصراع الدولي بين الدول المؤثرة في العالم اليوم، لا يزال قائما وإن كان خافتا من الناحية الإعلامية في فترة من الفترات، فحتى مع سقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار بقية المعسكر الاشتراكي في أواخر القرن الماضي، ربما اعتقد البعض أن هذا الصراع الدولي انتهى مع هذا الفراغ السياسي لإحدى دوله، وبقيت الولايات المتحدة قائمة على القطبية السياسية في العالم بعد هذا الانهيار، ولم تعد الحرب الباردة قائمة كما كانوا يعتقدون، لكن هذه الرؤى التي تحدثت عن القطبية الأحادية، وتربع الولايات المتحدة عليها دون منافس، ينقصها الكثير من التحليل السياسي والاستراتيجي العميق، صحيح أن صدمة سقوط المعسكر الاشتراكي، جعل الحرب الباردة شبه خالية من التوازن لغياب أحد الأقطاب الكبيرة كالاتحاد السوفييتي، لكن الأمر لم يكن كذلك فهناك قوى سياسية تتحرك وتخطط لنفسها للتحرك بصورة أو بأخرى، مع أن الظاهر يبدو الخلل وعدم التوازن قائما، وهو ما جعل بعض الدول الكبيرة، مثل الصين والاتحاد الروسي، تحاول إعادة التوازن بسياسات عدم قبول الأمر الواقع أو على الأصح، عدم ترك الغول الأمريكي يتحرك، دون أن يجد المنافس الكفء، أو على الأقل التحرك المحدود لإيقاف التمدد الأمريكي والأوروبي في أغلب قارات العالم، دون أن يجد من يرفض ذلك!.
لذلك استطاعت روسيا الاتحادية في العقدين الماضيين، أن تستعيد عافيتها في الجانب الاقتصادي بصورة أكبر، بعد الانهيار الكبير في 1991، لكنها فقدت الكثير من الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، ومع تولي الرئيس «فلاديمير بوتين» الحكم، بدأ وكأنه يريد استعادة مكانة هذه الإمبراطورية الروسية الكبيرة، من خلال تحركات سياسية وعسكرية، لاستعادة ولو بعض ما فقده الاتحاد السوفييتي، وهذا الأمر ليس سهلا، فالمتغيرات السياسية والفكرية، وعقليات الأجيال الجديدة، لم تكن بتلك الرؤى التي كانت سائدة قبل نصف قرن وما قبلها، وهذه لها ثمنها ومخاطرها وتحدياتها لو أريد إعادة ما كان سابقا، على الاتحاد الروسي، وكما نعلم أن أغلب دول حلف وارسو التي يترأسها الاتحاد السوفييتي آنذاك انضم أغلبها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وبقيت جمهورية أوكرانيا الأكبر والأغنى اقتصاديا، لم تدخل الاتحاد الأوروبي، ولا حلف الناتو، واستغرب البعض: لماذا توقفت أوكرانيا عن عدم الدخول في الاتحاد الأوروبي مع بقية الدول الأخرى؟!
وكانت تراودني الفكرة نفسها مع بعض المتابعين للحرب، بعد الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي، وضمها أربع مقاطعات مهمة من جمهورية أوكرانيا، واعتبارها كيانات مستقلة، واحتمال انضمامها للاتحاد الروسي، لكنني عندما بحثت عن مشكلة أوكرانيا مع روسيا، اطلعت على خفايا لم أكن أعرفها حق المعرفة بصورة وافية، ولماذا عدم الانضمام وأسبابه وخلفياته التاريخية، وقد بدأ ظهور الأزمة في أوكرانيا، بعد المظاهرات التي اندلعت في العاصمة عام 1913، بعدما رفض الرئيس الأوكراني الأسبق «فيكتوريانوكوفيتش» الدخول في شراكة مع الاتحاد الأوروبي، التي ربما تمهد للانضمام للاتحاد بعد ذلك، وهذه كانت البداية للتوتر مع تيار كبير في أوكرانيا يطالب بالدخول في الاتحاد الأوروبي، وحدث هذا في 2013، واعتبر الرئيس الأوكراني في ذلك الوقت أن هذه الشراكة لا تخدم أوكرانيا ولا تحتاجها، وتعني بلا شك محاولة للرفض دون مسوغات واضحة، وهو ما يعني أنه يجامل أو يتقارب مع روسيا الاتحادية في عدم رغبتها في هذا الدخول لاعتبارات معينة، وأن تبقى أوكرانيا على الحياد، وعدم التقارب مع الاتحاد الأوروبي الذي كان يرغب في دخول أوكرانيا في شراكة معها.
والحقيقة أن تاريخ روسيا وأوكرانيا، يعد تاريخا ملتبسا ومعقدا من عدة قرون، لو نظرنا لتلك الدولة ذات الخلفيات الإثنية والقومية الدينية، وقد قامت لعدة قرون بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية ودارت بعض هذه الحروب على أرض أوكرانيا، وفي أوائل القرن العشرين المنصرم، وبعد الثورة البلشفية عام 1917 التي أنهت الحكم القيصري، كان جزء كبير من أوكرانيا، يتبع القياصرة في روسيا، فقام الحكم البلشفي الجديد في روسيا الاشتراكية، بتشكيل مجلس وطني في أوكرانيا بعد انهيار الحكم القيصري، ثم اندلعت حرب أهلية دامية بين مجموعات قومية، فتدخل الجيش الأحمر عام 1921، واستولى على أغلب حدود أوكرانيا، وتأسست جمهورية أوكرانيا الاشتراكية المستقلة، ضمن دول الاتحاد السوفييتي. فالأزمة الأوكرانية بالفعل معقدة تاريخيا، خاصة العلاقة مع روسيا، بوجود قومية من أصول روسية كبيرة في أوكرانيا، وهو ما تسبب في توترات ومشكلات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، واستقلال أوكرانيا رسميا.
ومن ضمن سياسة الرئيس السوفييتي ستالين، أن يوسع مجموعات من الشعب الروسي، أو الشعوب الأخرى الداخلة ضمن النظام السوفييتي الاتحادي، إلى دول أخرى، وربما هدفه عدم جعل كل جماعة عرقية أو إثنية لوحدها في دولة من دول الاتحاد السوفييتي، ربما بهدف التقليل من الحركات الانفصالية، وتقوية الاتحاد السوفييتي بعدم وجود قومية لوحدها في دولة من الدول، لكن هذا التوجه كانت له آثار عكسية سلبية، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، جرت مشاكل وتوترات واشتباكات، بين العديد من الدول المنضوية سابقا بسبب هذه السياسة، والأخطر ليس هذا فحسب، بل الإشكال في قضية أخذ أراض من دول من الدول القريبة حدوديا، وتحويلها إلى أراض في دولة أخرى، ففي عام 1939، اقتُطعت أراض لأوكرانيا من بولندا، ومنها بعض الجزر في مناطق معروفة، وأصول سكانها من بولندا، وفي الأربعينيات من القرن الماضي، اقتُطعت أراض من رومانيا، ونقلها إلى أوكرانيا، وأيضا اقتطعت أراض من مولدوفيا وضمها لأوكرانيا أيضا، ومن أراضي تشيكوسلوفاكيا أخذت منها بعض الأراضي، وفي فترة حكم الرئيس الأسبق للاتحاد السوفييتي «نيكيتا خروتشوف» وهو من أصول أوكرانية أن قام بإعادة تشكيل جمهورية أوكرانيا، وسحب أراض أخرى وإدخالها ضمن أراضي أوكرانيا، منها جزيرة القرم، التي احتلتها روسيا من الدولة العثمانية نتيجة من نتائج الحرب بينهما، إلى جانب إدخال سكان روس إلى أوكرانيا، وبذلك تعددت القوميات في هذه الدولة المتعددة الأعراق والإثنيات والديانات، لكنها جرت عليها الحروب والصراعات ولا تزال قائمة فيها، وربما يجري عليها ما هو أخطر من ذلك، إذا لم يعم السلام قريبا.
فهذه الخطوات التي جرت في فترة الاتحاد السوفييتي من تعديل وتبديل ونقل أراض من هنا إلى هناك، أتت بآثار عكسية، تجر الآن حروب وصراعات كبيرة، وهي سياسة عقيمة، أتت على السكان بويلات كبيرة، وهذا ما نشاهده في أوكرانيا، التي كانت سلة الغذاء، إذا ليس للأوكرانيين فقط بل ولكثير من دول العالم. ولا شك أن الغزو الروسي لأوكرانيا واحتلال بعض الأراضي، وضم بعضها، ليس مسوغًا معقولا، خاصة أنها أصبحت دولة مستقلة وذات سيادة، وكان بالإمكان اتخاذ وسائل وطرق لحل بعض الإشكالات السياسية، بحكم أن في أوكرانيا سكانا من أصول روسية، وإذا فُتح الباب في دول العالم، لقضية تعدد السكان من أصول دولة جارة، إلى دولة أخرى، لتُتخذ حقوق هذه الأقليات، لتستقل من الدولة الأخرى، فهذا سيجر على الدول الحروب والصراعات ولن تتوقف، وهذا موجود في أغلب دول العالم، وبعض هذه تمت بسياسات سلبية سابقة، ولا يجوز أن تأخذ الشعوب بجريرة هذه السياسات، لكن من حق دولة لجارة أخرى أن تنعم بالسلام والاستقرار.
تشعر روسيا أن الغرب الليبرالي بدأ يزحف في منطقة كانت موقعا لروسيا وساحتها السياسية والاقتصادية، لكن وسيلة الحرب ليست من الوسائل الناجعة الإيجابية لتغيير الظروف السياسية، والحرب يبدو أن الغرب يريد إطالتها لاستنزاف روسيا اقتصاديا وسياسيا بحسب الظاهر، فالحرب الآن ليست بين روسيا وأوكرانيا، بل بين روسيا والغرب الرأسمالي، صحيح أن روسيا لديها اقتصاد قوي تملكه من النفط والغاز، لكن الحروب تكلف كثيرا، وكلما طالت الحرب تزداد الخسائر، فإن صح أن الولايات المتحدة، تشجع جلوس روسيا وأوكرانيا للتفاوض، كما جاء في بعض التصريحات الأمريكية الأخيرة، فهذا أمر جيد، لكن ربما هذا القول مجرد كلام بسبب ظروف الشتاء وأزمته في أوروبا، والغريب أن أوكرانيا ترفض التفاوض مع وجود الرئيس الروسي بوتين، وتلك أزمة مُعوِّقة، أن تمسّك بها الرئيس الأوكراني، لكن الأمر لا يزال غامضا في هذه الدعوات الداعية للتفاوض والرافضة له.
