مدينة الإنسان.. إنسان المدينة
يحتدم التنافس الاقتصادي عالميا سعيا لاكتفاء مادي يتحقق من خلاله أمان المجتمعات تنمويا واجتماعيا، ومع نمو الاقتصاد "لا سيما المعتمد على الصناعة" تتمدد المساحات الخرسانية والفولاذية أفقيا وعموديا عبر المدن، وتتقلص معها المساحات المخصصة للإنسان ونشاطاته الحركية والتواصلية اجتماعيا، ومع التقدم الصناعي والتوسع العمراني يتكبد إنسان هذه الدول ضريبة هذا التنافس وذلك التقدم من أعصابه وصحته النفسية والبدنية تأكيدا للارتباط الوثيق بينهما، وتعزيزا للعلاقة بينهما وبين قدرة الإنسان الإنتاجية بدنيا وذهنيا تعالت أصوات عالمية في كل مكان لضرورة العناية بالإنسان ومتطلباته الرئيسة، فضلا عن حاجته لتفعيل علاقته بالمكان وتفاصيله التي ينبغي أن تكون متناغمة معه أفقا جغرافيا وحياة يومية.
إن كانت الموارد وتوافرها والمكان ومعطياته، وحتى الوطن بتفاصيله يرى الإنسان مرتكزا ومحورا وهدفا أسمى لغاياته وبلوغها فليس من الحكمة أن يقع الإنسان في آخر أولويات التخطيط عمرانيا، والتطور تنمويا. ومن كل هذه المنطلقات مع استقراء تحديات الواقع المعاش نشأت الحاجة لخلق مساحات صديقة للإنسان، وإن كانت الطبيعة هي متنفس الإنسان الأول فإن بعض معطياتها قد تمنحه تلك المساحات للتنفيس والتواصل بجانبيه الإنساني والجغرافي "المكاني" واستعادة النشاط تمهيدا لإنتاجية عملية و تواصلية مجتمعية.
"أنسنة المدن" مصطلح عرفته منصات التخطيط العمراني، وذكاء التصميم الإسكاني الحضري سعيا لخلق بيئة صحية آمنة للفرد وأسرته ومجتمعه المحيط، فما هو تعريف هذا المصطلح؟ وما مدى أهميته؟
"أنسنة المدن" تتمثل في التركيز على البعد الإنساني في تصميم الطرق والحدائق والأسواق والأماكن العامة، بحيث يجد الإنسان مساحات خضراء موزعة على المكان، إضافة إلى ممرات المشي والتنزه، مع توافر سهولة وانسياب الحركة دون عوائق، وتذليلها إن وجدت، خصوصا لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، مع مراعاة الجانب الجمالي ما أمكن، هو تحول المدن إلى آفاق صديقة للإنسان، وليست مجرد مكعبات اسمنتية مختلفة الأشكال والأحجام، تضيق بها نفسه، ويضجر منها عقله، ولا يشعر بأنها تحتويه.
ومع حديث الكثير عن "أنسنة المدن" جاءت مبررات مكررة لعرقلتها، كسابق البنيان أو تكلفة الهدم بعد الإعمار، لكن كل تلك العقبات يمكن تذليلها إن آمن المخططون بالإنسان في سعيهم لخلق مدن جاذبة قادرة على استيعابه واحتواء حاجاته دون أن تكون تلك الحاجات هي المادية فقط، فمشكلة المساحات في المدن تامة التعمير يتم تجاوزها عبر استغلال المساحات العامة الفارغة ما أمكن للتشجير وبناء ممرات مشي وأماكن تنزه مهما كان حجمها، أما في حالة تمام العمران فالحل في بناء مدن مجاورة موازية تعويضا لحاجة إنسان الجوار للمدن الصديقة للإنسان والمدن الخضراء والمدن المستدامة.
لا يمكن إهمال الجانب النفسي من الإنسان المرتبط بالبحث عن الطبيعة والهواء غير الملوث ما أمكن، وفي هذا السياق أذكر مثالا بسيطا من محافظة البريمي حيث أسكن؛ هذا المثال ليس في حديقتها التي تعتبر متنفسا حقيقيا للأسر والأفراد المقيمين بالمحافظة وزائريها صيفا وشتاء، وإنما في ممر "المسيال" الذي لا يتجاوز في مساحته أمتارا بسيطة لكنه يعج بالناس مساء بشكل لا يصدق، تلك المساحة البسيطة تم استغلالها بذكاء ليتوافر فيها غطاء من التشجير الصناعي، وممر للمشي، وبضع آلات رياضية تمكن الزائر من اختياره مكانا أمثل لقضاء ساعات من السمر والأصدقاء أو العائلة، أو مكانا للتريّض والمشي حال الرغبة في ذلك، أو مكانا مفتوحا على هواء طبيعي لتناول وجبة هانئة خارج مربعات الأماكن المغلقة.
بعد إدراك حاجة الإنسان لصداقة المدن تحول التصور المرتبط بقرار يضعه مسؤول التخطيط العمراني إلى قرارات فردية لدى الناس لصداقة المكان ما أمكن، فلا يكاد بيت يخلو من مساحات تشجير طبيعية أو صناعية، خصوصا مع توافر مساحة كافية في فناء المنزل، أو حتى في شرفاته إن لم يتوافر الفناء، ومع ما لهذه القرارات الفردية من محاذيرها خصوصا مع تقدير استهلاك المياه الجوفية، أو الإنفاق على فواتير شهرية مكلفة يتحتم النظر إلى بديل وضع" أنسنة المدن" في الاعتبار أوان وضع مخططات جديدة، أو استغلال المساحات في المخططات القديمة.
إن حاجة الإنسان والمجتمعات لمدن صديقة متعاطفة تتعاظم يوما بعد يوما، ينبغي لهذه المدن أن تغذي روح الإنسان ذاكرة وتفاصيلا وخيالا إبداعيا، إضافة إلى خلق مساحات بينية للالتقاء والتحاور وتبادل الأفكار والمنافع، أن لا تكون مدنا فولاذية لا تحسن الإصغاء، مدنا خادشة سمعيا وبصريا، مدنا ملوثة فُصِّلت لخدمة المركبات والمباني أكثر من خدمة الإنسان وتلبية متطلباته.
وليست "أنسنة المدن" مجرد رصف ممشى أو بناء منتزه، ولا توهم المجمعات المصطفاة النخبوية المعززة للعزلة والطبقية بين أفراد المجتمع، بل هي حالة انفتاح مكاني وتواصل إنساني مجتمعي يسهم خلقها في بناء تكافل اجتماعي وتكامل مجتمعي متوافقين مع المدينة الإنسان والإنسان المدينة في أجمل صورة وأبهى حلّة .
