الصيام الرقمي والزهد التكنولوجي!!!
لا أذكر على وجه الدقة متى كانت المرة الأولى التي سمعت فيها مصطلح «الصيام الرقمي»، ولكني أذكر أنني وضعته على أجندة كتاباتي في الثقافة والتربية الإعلامية، ثم اشتغلت عنه بأولويات وقضايا أخرى، إلى أن وجدت نفسي في مواجهة مباشرة مع هذا المصطلح بعد أن قررت بمحض إرادتي تنظيم استخدامي للمنصات الرقمية، وأن أتبع نظام الصيام الرقمي لساعات يوميا.
عندما عدت لملفاتي القديمة حول الصيام الرقمي وجدت أن مياها كثيرة جرت في نهر الكتابات والبحوث العلمية التي تناولتها طوال السنوات العشر الماضية، ومع ذلك فقد بقي جوهره كما هو، بصفته محاولة لإنقاذ الذات الضائعة في متاهات الفضاء الإلكتروني، والعودة إلى أصول الأشياء، ومحاولة -قد تبدو متأخرة بعض الشيء- تشبه الصيام الغذائي، للتخلص من الوزن الرقمي الزائد، الذي نتحمله نتيجة التعرض لساعات طويلة للمنصات والأجهزة الرقمية. وتتيح فترات التوقف بإرادتنا عن استخدام جميع الأجهزة المتصلة بشبكة الإنترنت كالهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة الحاسوب الفرصة لأدمغتنا وحواسنا للتخلص من السموم الرقمية، والعودة بالعلاقات الاجتماعية والإنسانية إلى ما كانت عليه قبل عقود.
هل يحتاج الإنسان المعاصر أن يضيف إلى حالات الصيام الكثيرة التي يدخل فيها هذا النوع الجديد من الصيام الذي يراه البعض نوعا من الزهد التكنولوجي لا حاجة له؟ لقد جربت على المستوى الشخصي من قبل أنواعا من الصيام الإعلامي والإخباري، امتنعت من خلاله عن التعرض لنشرات الأخبار لفترة من الزمن، كما امتنعت عن متابعة المنافذ الإعلامية التي لا تتفق مع رؤيتي للعالم وأحداثه. ومن المؤكد أن عددا غير قليل من القراء الأعزاء جربوا طرقا كثيرة لتقنين استخدامهم الشخصي واستخدام أطفالهم وأحفادهم للمنصات الرقمية ووسائل الإعلام حفاظا على صحتهم البدنية والنفسية، ولكن هل جرب أحد «الصيام الرقمي»؟ واقع الحال أن الصيام الإعلامي والإخباري يظل متاحا وممكنا، بل ويتوافق مع ما تقول به بعض نظريات الإعلام مثل نظرية الغرس الثقافي، التي تؤكد أن التعرض الكثيف لوسائل الإعلام خاصة التلفزيون يؤثر في إدراك الواقع الاجتماعي، ونظرية التنافر المعرفي التي تقول إن الناس يتجنبون وسائل الإعلام التي تحمل إليهم معلومات تتناقض مع معتقداتهم واتجاهاتهم وتصورهم للعالم، وكذلك نظرية التوازن المعرفي التي تشرح الطريقة التي ينظم بها الفرد المواقف نحو الناس والأشياء في علاقة أحدهما بالآخر، في إطار بنائه المعرفي.
وتؤكد نظريات الاتصال على حقيقة أن الناس يواجهون تنافر المعلومات الإعلامية بآليات عديدة تبدأ بتجنب التعرض للرسائل التي يرون أنها لا تتماشى مع مفهومهم عن العالم، وهو ما يطلق عليه «التعرض الانتقائي»، أو ربما يهتمون فقط بأجزاء الرسالة التي تتوافق مع «الأطر المرجعية السائدة»، وهو ما يُسمى «الانتباه الانتقائي»، بالإضافة إلى التشكيك في مصدر المعلومات المتنافرة، إلى جانب التذكر الانتقائي.
هل يختلف الصيام الرقمي عن الصيام الإعلامي والإخباري؟ نعم إلى حد كبير. فرغم أن المضمون الرقمي هو في أصله مضمون إعلامي تم تكييفه ليتوافق مع طبيعة وخصائص المنصات الرقمية المختلفة إلا أنه لسهولة استخدامه وتنوعه وتعدد وسائطه ومنصاته يمكن أن يؤدي إلى ما يطلق عليه الباحثون «الإدمان الرقمي»، وهو مصطلح مشتق من إدمان الإنترنت الذي استأثر لفترة من الزمن باهتمامات الباحثين ثم تراجع أمام سطوة ما يسمى بالإدمان الجديد وهو الإدمان الرقمي الذي صار أكبر وأخطر.
ولعل من أهم المصطلحات التي أصبحت شائعة لدى باحثي الإعلام مصطلح «الديتوكس الرقمي» أو «التخلص من السموم الرقمية»، ويعني الفصل الدوري عن وسائل التواصل الاجتماعي وعن الإنترنت بشكل عام، والحصول على استراحة منها لفترات قصيرة أو طويلة، واتباع استراتيجيات لتقليل الانغماس في الوسائط والمنصات الرقمية.
ويجادل البعض حول أن التخلص من السموم الرقمية يختلف عن الصيام الرقمي، باعتبار أن الأخير عمل طوعي يقوم به الفرد بالامتناع لساعات تطول أو تقصر عن استهلاك الوسائل والمنصات الرقمية. ويشبه «الديتوكس الرقمي» إلى حد كبير ممارسات فردية مماثلة كان يقوم بها البعض للصيام عن مشاهدة التلفزيون ربما لأسابيع، في تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية الجديدة، وكان يطلق عليها «أسابيع خالية من التلفزيون». ورغم أن عمر هذا المفهوم لم يتجاوز العقد من الزمن فإن استخدامه زاد بسرعة كبيرة خاصة بعدما تم تضمينه في قاموس أكسفورد في عام 2013، ليشير إلى «فترة زمنية يمتنع خلالها الشخص عن استخدام الأجهزة الرقمية، مثل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب، وذلك لتقليل التوتر من جانب، وإعادة التركيز على التفاعل الاجتماعي الواقعي وليس الافتراضي من جانب آخر.
ويثير الصيام الرقمي خلافا بين فريقين، الأول يدعو ويروج له، ويحث الناس على اتباع حمية رقمية تجنبهم مخاطر الضغوط النفسية والعصبية والإدمان الرقمي، وتعيد إليهم إحكام السيطرة على حياتهم. والثاني يرى أنها دعوة لا يمكن تنفيذها لارتباط حياة ومصالح البشر بالمنتجات والأجهزة الرقمية ارتباطا وثيقا، كون التكنولوجيا الرقمية تلبي احتياجات إنسانية أساسية لم يعد بالإمكان الاستغناء عنها. لم يعد الناس يجولون في الشوارع كل مساء أو يتصلون ببعضهم البعض للتحدث ربما لساعات عبر الهواتف الأرضية. فالإنترنت اندمجت في حياة البشر وأصبحت جزءا منها، لذا فإن الصيام الرقمي لن يؤدي- من وجهة نظر معارضيه- إلا إلى حرمان أنفسنا من تلبية احتياجاتنا الاتصالية الأساسية، ويُدخلنا في حالة من «الزهد التكنولوجي» لا ضرورة لها.
وتتعلق المخاطر التي تدفع البشر إلى اتباع حمية «الصيام الرقمي» في خطرين أساسيين، هما: الإدمان الرقمي، والحمل الزمني الزائد الذي تلقيه الوسائط الرقمية على عاتق المفرطين في استخدامها. فعلى مدار العقد الماضي بدأ عدد متزايد من علماء النفس في النظر إلى الإدمان على التقنيات الرقمية كشكل من أشكال الإدمان السلوكي، على غرار إدمان القمار، وإدمان المخدرات. ويشير هؤلاء إلى حقيقة أنه عند استخدام الهواتف الذكية أو ممارسة الألعاب عبر الإنترنت أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فإن العديد من الأشخاص يقومون بسلوكيات مشابهة جدا لتلك التي يقوم بها مدمنو المخدرات، إلى جانب المعاناة من أعراض الانسحاب في حال منع الشخص من استخدامها، وتزايد مشاعر الغضب والتوتر والاكتئاب، وانخفاض القدرة على التركيز والأرق.
وعلى صعيد الحمل الزمني الزائد يقول الباحثون إن الأدوات والوسائط الرقمية تشغل الكثير من الوقت وتشتت انتباه الناس عما هو مهم وضروري في الحياة. وقد عبر أحد الباحثين عن ذلك بالقول «إن وقتنا ثمين ولكنه محدود، ومع ذلك فإننا نضيع الكثير منه كل يوم على الوسائط الرقمية»، فيما يقول آخر «نحن نعيش في مجاعة زمنية»، في إشارة إلى أننا نفقد أوقاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي بدلا من قضاء المزيد من الوقت مع العائلة والأصدقاء. واقع الأمر أن الاستخدام الكثيف للوسائط الرقمية يعطل «إحساسنا بالوقت» وإدراكنا لأهميته. ويعاني «المدمن الرقمي» من تسرب وقته، كونه يقضي وقتا طويلا في حالة من العزلة، وهو يحدق في هاتفه أو جهازه اللوحي أو شاشة الحاسوب، لذا لا يعرف أي فكرة عن الوقت.
وللتخلص من الحمل الزمني الزائد ينصح الباحثون أولئك الذين يقضون ساعات طويلة أمام الوسائط الرقمية بارتداء ساعة يد تقليدية، وشراء منبه تقليدي قديم الطراز، وضبطه على وقت محدد ينتهي فيه من استخدام المنصات الرقمية. ومن النصائح الطريفة أيضا التي تشجع على الصيام الرقمي إخفاء الهاتف الذكي، وتخصيص أوقات تكون خالية من الشاشات، أو استخدام التطبيقات التي تقيد الوصول إلى تطبيقات الوسائط الاجتماعية لفترات محددة، والانخراط في أنشطة خارج الغرف المغلقة، والتواصل مع الغرباء. إنها دعوة للصيام الرقمي ربما لساعات أو أيام أو خلال الإجازات الأسبوعية وفي أوقات اجتماع العائلة، لعلنا نتخلص ولو قليلا من السموم الرقمية التي أصبحت تحاصرنا من كل جانب، وتسمم علاقتنا بالكون والبشر.
