منافذ اقتصادية بين النمور وأشبالها
في ضوء المتغيرات الراهنة عالميا وتحديات الاقتصاد العامة وصراع القوى الكبرى على دفة السيطرة اقتصاديا، تركز دول آسيوية ناجحة على اقتصاداتها المحلية إما لتجنيبها دوامة التأثر العالمي، أو لتأسيسها التراكمي لاقتصاد صاعد جديد.
هذه الدول الآسيوية وجدت في اليابان نموذجا تحاكيه للصعود اعتمادا على الصناعة رغم قلة الموارد الطبيعية، إضافة إلى النمو العلمي والتطور التكنولوجي، وما أخطأت في ذلك، بل أصابت وأجادت.
بين الستينات والتسعينات من القرن الماضي أطلق على أربع دول آسيوية لقب "النمور الآسيوية" تقديرا لتصاعد اقتصادها بشكل لافت مثير للاهتمام العالمي؛ هذه الدول هي: كوريا وهونغ كونغ وسنغافورة وتايوان، ثم نهضت من بعدها اقتصادات آسيوية أخرى معتمدة التقنية ذاتها في النمو الاقتصادي للخروج من حلقة أضعف الدول اقتصاديا إلى استقرار يفضي لأمان اقتصادي إن لم يسعَ للتنافس والحضور في قائمة الاقتصاد الصاعد، هذه الدول سميت كذلك بـ"شبل النمر" تيمنا بسابقاتها من النمور الآسيوية، أما الأشبال فهي: إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلند وفيتنام، والتي ترتكز في اقتصادها على التصدير والتكنولوجيا تعزيزا للتنمية الاقتصادية التي هي الأساس للتنمية الاجتماعية والتنمية البشرية.
وفقا لتوقعات أصدرها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فإن الدول الآسيوية قد تحتل المراكز الخمسة الأولى على قائمة أكبر اقتصادات العالم من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024، متخطية بذلك القوى الاقتصادية الأوروبية. فما الذي عزز هذه الاقتصادات وصعد بها من نهاية القائمة إلى المراكز الأولى في التنمية الاقتصادية؟
لم يكن الأمر ضربا من حظ أو صدفة طارئة، بل أتى نتيجة منطقية لدراسات معمقة في واقع ممكنات هذه الدول ومواردها الطبيعية والبشرية، ثم وضع خطط طويلة المدى متبوعة برقابة دائمة مكثفة لخطوات التنفيذ، فضلا عن خطط دورية قصيرة المدى للتقييم والمتابعة والتغيير إن اقتضى الأمر وفقا لمعطيات الواقع وتحدياته.
خرجت هذه الاقتصادات من دائرة الخطط العشرية "التي تستغرق عقدا كاملا أو عقودا من الزمن" لخطط ربع سنوية معززة بالتقييم الدائم والتعزيز المستمر الذي يحول دون تراكم الأزمة اقتصاديا، إذ في تراكم الوقت تتمثل صعوبة إيجاد الحلول بعد تفاقم الوضع.
ومع التنويع الاقتصادي الذي لا يتكئ على مصدر وحيد من مصادر الاقتصاد، إلى تعزيز الصناعة بالتكنولجيا والمعرفة البشرية لم تسلم هذه الدول باقتصاداتها الصاعدة من التأثر بالأزمات بطبيعة الحال، لكن نجاحها يكمن في قدرتها الفائقة على سرعة التعافي مع حساباتها ربع السنوية التي تخدمها في سرعة استقراء المشكلة وسرعة وضع حلولها المقترحة مع تنفيذها غير القابل للتأجيل والتسويف أو الحذر المعطل للعمل.
تفاصيل لا يمكن إيجازها في مقالة عابرة، لكن المرور بنمور آسيا أو أشبالها يحيلنا بالضرورة لتساؤلات عن اقتصاداتنا العربية، والخليجية بشكل أكثر تحديدا، وممكنات الصعود بهذه الاقتصادات مستفيدين من ممكنات الواقع وتحدياته كذلك، تأسيسا لاقتصادات فردية "إن شئنا" تعتمد في خططها على فكرتي التنويع والتصنيع ما أمكن، أو جماعية تتضمن فكرة التكامل بين مجموعة من الدول "الخليج مثالا" فإن قدمت دولة ما المكان قدمت الأخرى الأيدي العاملة، وثالثة ساعية بالتقانة وبدائلها لصنع اقتصاد ثابت غير محكوم بسعر النفط وتقلباته في الأسواق العالمية، اقتصادا تكامليا قادرا على الوقوف أوان الترنح، متمكنا من التعافي أوان التحديات الكبرى.
لا بد من اعتراف أوليّ بأن الاقتصاد هو صانع القرارات سياسيا وتنمويا، لكن ذلك يحيلنا يقينا للإنسان أداة للتغيير وهدفا للتنمية بتعزيز قدراته، كما يحيلنا لزاما للوطن ومقدراته من موارد وطاقات. وإن بحثنا في أوراق مواردنا وطاقاتنا فإن لدينا ما لا يمكن إنكاره من موارد طبيعية يأتي البحر في مقدمتها؛ موقعا استراتيجيا له بدائله الاقتصادية والدبلوماسية، أو خيرات شتى نجني منها ما يسد حاجة التنمية ويزيد، أما ونحن نملك مع البحر وخيراته موارد أخرى طبيعية وبشرية، فضلا عن كل ما أسس له مخلصو هذا الوطن من تاريخ عريق وعلاقات راسخة بحضارات مختلفة ودول لا تحصى.
ترى هل نختار لنا موقعا اقتصاديا يناسبنا فننضم لمجموعة النمور أو أشبالها، أم نسعى بعلاقاتنا ومواردنا وطاقاتنا لصنع غابة كاملة بكل ضواريها مع اختيارنا من تكتلات اقتصادية شقيقة أو صديقة تضيف لنا ونضيف لها لنقف معا على أرض اقتصادية ثابتة تضمن لنا ولشعوبنا أمانا مستقبليا، وتنمية مستدامة حقة؟.
