في التاريخ وحركته وفلسفته

26 أكتوبر 2022
26 أكتوبر 2022

كلمة التاريخ بعيدًا عن المصطلحات والمعاجم الأدبية والفكرية، تعني ذلك العلم الذي يبحث في الماضي الأبعد الذي يقدّر ربما بعشرات القرون، وما بعده أيضًا لربط هذا التاريخ بحوادثه ومجرياته، لكن بعض المؤرخين القدامى، خاصة الذين سبقوا العلامة ابن خلدون، وبعضهم فيما بعده، كان محددًا وفق طرق سردية عادية بعيدة عن التحليل والتفسير، لشرح مسارات تاريخية وتتبعها، ودون الغوص في العمق الذي سار فيه هذا العالم العربي الكبير، وتبعه البعض من المؤرخين الغربيين، من حيث إنه قام بدراسة التاريخ وتدوين حوادثه، ثم يتم تسجيلها، ليُعرف ما جرى من ارتقاء، أو انحدار للأمم والحضارات التي مضت وأصبحت تاريخًا، وما هي التغيّرات التي واجهتها المجتمعات في حياتها، سواء في الجوانب الاجتماعية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو غير ذلك من الجوانب والمجريات التي حصلت في أي أمة من الأمم السابقة، فيقوم المؤرخ بتسجيلها وسرد حوادثها، اعتمادًا على السماع أو القراءات السابقة، أو المخطوطات أو غيرها من الطرق والوسائل للتسجيل للحصول على المعرفة التاريخية. ولا شك أن التسجيل التاريخي قديم قدم البشرية وتحضرها أو تخلفها، وقد بدأ تأسيس هذا العلم كما تذكر كتب التاريخ مع الإغريق، الذين كانوا السبّاقين في الفلسفة أو الحكمة كما يسمونها، ويعد المؤرخ الإغريقي «هيرودوت»، والذي تمت تسميته بـ«أبو التاريخ»، هو أحد المؤسسين لكتابة التاريخ في اليونان.

أما فلسفة التاريخ كعلم ومنهج، فقد تم إدخاله للجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية في العصور المتأخرة، فقد بدأ حديثًا مع عصر النهضة الأوروبية، بعد إقصاء الكنيسة الغربية التي وقفت ضد العلوم الحديثة، ورفضت الكثير من المعارف التي تخالف ما تم اعتماده من أقوال قال بها القساوسة عن سير التاريخ، وما يجري فيه من تقلبات، ومنها حركة التاريخ البشري، التي لها مفهوم سائد لدى الكنيسة الغربية، ويتم الاعتراض على مخالفته وتتهمه قائلة بالزندقة والانحراف، عن الدين المسيحي، لكن مع الوعي الغربي وتقدمه ونهضته العلمية، فُتح الباب لاستقراء التاريخ وتتبع مجرياته، وهو ما أدى إلى وضع فلسفة للتاريخ كعلم من العلوم الجديدة في الجامعات الغربية، وكهدف آخر لاكتشاف الشعوب الأخرى، كهدف من أهداف التوسع الغربي، لاكتشاف عقليات الشعوب الأخرى، وكانت لغايات لا تخلو من نظرة لا تتسم بالعلمية والمنهجية الخالصة، لكن المفهوم لفلسفة التاريخ، كما طُرحت في العلوم الحديثة، يقصد بها تحديدًا الفهم الحقيقي لتاريخ البشرية، أو هو أقرب للنظر إلى التاريخ البشري. ولذلك فإن الاهتمام بفلسفة التاريخ، جاء بهدف رصد وتفسير الوقائع التاريخية والتفكير فيها بعمق، بما يعطي رؤية للتفلسف التاريخي للحوادث وتطورها، من خلال تأمل هذه الوقائع الماضية، ثم إلى بحثها في ظل القوانين المحركة لهذا التاريخ، وتتبع تطور المجتمعات للإنسانية أو جمودها أو انتقالها من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى عند سيرها التاريخي.

فعلاقة المؤرخ بوقائع التاريخ وفلسفته، هي علاقة نظر وفهم ما يجري من وقائع وحوادث مصاحبة، وكيف تراجعت حضارة معينة عن مسارها المتقدم وانحسارها في مسارات أقل بكثير عما بدأت به دافعية كبيرة للنهضة؟ وكيف نهضت أخرى بطريقة مغايرة، مع أنها كانت في مستويات أقل من حضارة سبقتها؟ مع اتفاق العوامل الدافعة لهما في مراحل متقاربة، وما السبب الأساسي في هذا الأفول والتراجع لحضارة دون أخرى من عصور متقاربة؟ فكل هذه الظروف تجعل أهمية المؤرخ الفيلسوف أن يفّسر ويفلسف مراحل التاريخ، وهي مسألة مهمة وضرورية للمؤرخ والباحث في علوم التاريخ وحركته أيضًا، ولمعرفة السببية الدافعة لما جرى ويجري.. ولماذا؟ ومن هذه المنطلقات المعرفية وضعت منهجية دقيقة، وتطور مفهوم فلسفة التاريخ عند المشتغلين في الغرب منذ القرن السابع عشر وما بعده، ونجحوا نجاحًا باهرًا في سبر أغوار التاريخ القديم والسحيق، واستنتجوا منه الكثير من المعارف الغائبة عن العقل البشري، فلذلك فإن تطور فلسفة التاريخ انطلقت من تتبع الحوادث التاريخية بالطريقة السردية، إلى مراحل أكثر تقدمًا بطرق مختلفة -كما أشرنا- من خلال التأمل في حركة التاريخ، أو قانون العلّية فيه -وهو يعني ربط العلاقة السببية بين حدث وحدث آخر كنتيجة للأول- ولذلك كما يقول الدكتور مرتضى مطهري عندما تم البحث في الحركة التاريخية، تم التوصل إلى: «أن قانون العلية يجري في التاريخ في العلوم الطبيعية، أصبح من مهمة فلسفة التاريخ، الكشف عن القوانين الفاعلة في حركة التاريخ، فأصبحت فلسفة التاريخ تعني: دراسة طبيعة الحوادث التاريخية وروابطها العلية والمعلولية، للوصول إلى مجموعة من القواعد والضوابط العامة التي يمكن تعميمها لجميع الموارد المشابهة في الماضي والحاضر والمستقبل».

ولا شك أن العلامة ابن خلدون، وضع اللبنة الأولى لفلسفة التاريخ، وشكّل الدعائم الأولى لهذا العلم، وفتح الباب مشرعًا أمام الباحثين المتأخرين، خاصة في الغرب، لكونهم سبقوا في التعرُّف على مؤلفاته في حركة التاريخ وعلم العمران البشري قبل العرب والمسلمين، وهو بهذا وضع الأسس في التفكير، من خلال ما كتبه من مرئيات تؤسس لفلسفة التاريخ، دون أن يضعها في قوالب علمية محددة وفق العلوم الحديثة، لكن الذين أتوا من بعده استفادوا من نظرياته في علم العمران، وفي مسألة تطور البشرية في المراحل التي قالها في المقدمة، وقد أشرنا إلى ذلك فيما كتبناه عن علم العمران البشري في مقالنا الأسبق. ولا شك أن العقول الفكرية والفلسفية تستفيد من بعضها البعض، والحضارات أيضا تأخذ من سبقها، وتضيف إليها وهكذا.. وابن خلدون بما كتبه من نظريات علمية، لاكتشاف تاريخ الحياة البشرية، انطلق من منهجية مغايرة ممن سبقه من مؤرخين، وهو الاعتماد على التقصي والبحث والتفسير، وهذا هو التطور الذي جاء بعد الكتابات السابقة للمؤرخين، ولذلك يعد ابن خلدون بلا منازع أول من وضع فلسفة التاريخ وإن خالف البعض ذلك، والمؤرخون الغربيون أخذوا عنه الكثير من مضامين نظرته التي وضعها لمسار التاريخ العلمي والفلسفي للحياة البشرية، والبعد عن السرد في كتابة التاريخ، هو عين ورأس فلسفة التاريخ من خلال التعليل والتفسير للأحداث التاريخية والاستنتاج منها، ومع أنه لم يطرح مصطلح فلسفة التاريخ، لكن هذا هو مضمونه العلمي. ولذلك فإن العلامة ابن خلدون كما يقول الدكتور حسين محمد سبيتي: «استطاع بذلك فحص الحوادث التاريخية، واكتشاف أسرارها، وإبعاد الخرافة عنها، والوقوف على حقيقتها، فكانت «المقدمة» الشهيرة التي وضع فيها ابن خلدون أسس علم التاريخ وعلم الاجتماع إلى جانب فلسفة التاريخ وعلوم كثيرة كالاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي والمهن والآداب وغيرها. والحقيقة أن بعض الغربيين بمركزيتهم الفكرية، حاولوا التقليل من جهد وفكر هذا العلامة، لكن هذا يخالف بعض أقوال المؤرخين الغربيين البارزين، من أمثال المؤرخ الشهير «توينبي» و«روبرت فيلنت» و«ودي يور»، وحتى الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي «فيكو» وهو الذي أتى بعد ابن خلدون، بثلاثة قرون قال بالنص: «ليس أفلاطون، ولا أرسطو، والقديس أوغسطين بأنداد له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه... كان رجلا منقطع النظير بين أهل دينه ومعاصريه في موضوع الفلسفة التاريخية».

هذا القول بلا شك من الفيلسوف الإيطالي عن مكانة ابن خلدون في علم التاريخ وفلسفته، يقدم البرهان الصادق لمؤرخ كبير عن هذا العلم الفذ.. فمكانته العلمية مسلّمة عند الكثيرين من الغربيين المنصفين، بل إنه هو الذي فتح المجال للغرب ليضع فلسفة التاريخ في المؤسسات العلمية والبحثية موضع الاحترام والتقدير لمن أسدى للبشرية هذه العلم المهم عن حياة الشعوب منذ بزوغ فجر التاريخ.