نوافذ : ومَنْ أَحْسَنَ..
shialoom@gmail.com
عندما يسدي لك شخص معروفا ما، أول ما تبادره بقول: "أحسنت" وإن سبق ذلك قولك: شكرا، وكأنك بهذه الكلمة "أحسنت" ألبستة امتنانك، وعرفانك بفضل ما قدمه لك، فأحسنت هنا بمثابة الاعتراف الشامل بالجميل، فالوصول إلى درجة الإحسان يكون وصولا مشبعا بكامل السمو الأخلاقي، والتربوي، وكم هي معروفة درجة الإحسان؛ سواء في تقديم الفعل، أو تقديم الشكر على أثر الفعل، ومعنى ذلك إن حل الواجب في أداء الفعل، فإن هذه الواجب، في كثير من الأحيان مخير فيه؛ إما أن تفعله لتلقى المقابل، وإما أن تتركه، فتقد المقابل، لأنه واجب، ودرجة المفاضلة بين تركه أو القيام يعتمد كثيرا على هذا المقابل، أما الإحسان فذلك سخاء وجداني زائد عن الواجب، ومن صفته أن ليس بمقدور أي إنسان أن يصل إليه، إلا من وفقه الله الوصول إلى هذه الدرجة السامية من تقديم العطاء، أو القيام بما يفوق الواجب، وكما يقال: "للإحسان أهله؛ وليس ذلك للواجب".
وقد حفلت نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الكريمة؛ بالكثير من الآيات والأحاديث التي جاء فيها ذكر الإحسان (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم...)، (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في التعريف بالإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك"، فتجاوز الرؤية في العبادة يظل من أصدق المواقف الإيمانية في العلاقة بينك وبين الله عز وجل، وهذا ما يرجح كل الأعمال المخفية عن أعين الناس حيث تكون خالصة صادقة، وهي من الإحسان بلا شك، ومحظوظ من يسر الله له ذلك.
فعندما تعطف على فقير لتهبه من مال الله ما يكفيه، فذاك من الواجب المحمود، ولكن عندما تهبه لتغنية عن الكفاف فذلك الفعل ينتقل من الواجب إلى الإحسان، وهذه صورته الرائعة، وتجاوز الواجب إلى الإحسان يظل إسقاطها على جميع ممارساتنا اليومية متاحا للجميع، وفي كل الأحوال، في المؤسسة الوظيفية، وفي المؤسسة الأسرية، وفي المؤسسة الاجتماعية، وفي السوق، وفي أي مكان يكون لنا موطئ قدم فيه، فالمسألة غير متوقفة على حالة معينة دون أخرى، ومن يستطيع أن يستحضر هذه الصورة في نقاوتها، وفي برها، وفي تألقها؛ فإنه بذلك يكسب رهانات استحقاق التميز، سواء في العطاء البدني أو العطاء المعنوي، يقول الشاعر أبو الفتح البستي – شاعر فارسي؛ حسب المصدر -:
"أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم: فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ" فقد أنزل الشاعر الإحسان بمثابة القائم بالفعل في التأثير على الطرف المتلقي للإحسان، وهي صورة إبداعية رائعة في توظيف فعل الإحسان إلى درجة أسر النفوس والقلوب.
(ومَنْ أَحْسَنْ..) يبقى ذلك الانعتاق من تجاذبات الذات، فالذات لا تتيح لك البذل أكثر من الواجب المنوط عليك، أما ما يزيد عن ذلك، فيعد عقبة كأداء ليس يسيرا تجاوزها إلا لمن أوتي مناقب الرضى والأمان والإيمان، ولذلك قيل ما بين البخل والكرم حد دقيق، أو فاصل هلامي، كما هو الفاصل بين الماء واليابسة، حيث لا يتيح لك هذا الفاصل ذلك البعد المادي الذي يمكنك مراجعة التفكير فيه؛ سواء للبقاء عليه، أو تجاوزه، ففي غمضة عين يمكن أن يتجاوزه الماء، ليكون على حساب اليابسة، أو العكس، ومن يستطيع أن يقوم بزمام المبادرة في استغلال حالتي المد والجزر، فقد نجح، وذلك حال من يتعدى فاصل الواجب ليصل إلى مساحة الإحسان الممتدة.
