مظاهر التحول في التجربة التنموية
تتحول التجربة التنموية؛ في العرف الدولي كممارسة وفهم؛ إلى مسيرة تنموية، ومتى وصلت التجربة إلى مفهوم "مسيرة تنموية" فإن لهذه المسيرة التنموية استحقاقات كثيرة، حاضرة، وقادمة، مادية ومعنوية وإنسانية؛ في بعديها الأفقي "الكمي" والعمودي "النوعي" على أن يتوازى البعدين في مستوى الإنجاز، ولا يقبل أن يسبق أحدهما الآخر، لأن مؤدى ذلك إلى خلل بنيوي في المسيرة التنموية؛ لا محالة، ومتى حدث هذا الخلل البنيوي، وجدت هناك ثغرة، يجب رتقها سريعا؛ خوف اتساع رقعتها، وخروجها عن السيطرة، وإلا اختلت المسيرة التنموية، وأصبحت "عرجاء" تحتاج إلى عصى تتكئ عليها، وهذا ما لا يقبل إطلاقا؛ خاصة مع وجود عدد غير قليل من الـ "تكنوقراطيين" الفاعلين، وهم نتاج المسيرة التنموية، بلا شك، والذين تعتمد عليهم المسيرة التنموية في جميع مراحلها، خاصة مع تراكم الخبرات والتجارب، واستحداث أنظمة وقوانين ومفاهيم، فارضة نفسها بحسب متطلبات الواقع من ناحية، وبحسب متطلبات الرؤية المستقبلية من ناحية ثانية.
تتسلسل القاعدة الهرمية للتجربة التنموية وفق الرؤية التالية: حيث تبدأ بالمبادرة، وذلك من خلال طرح الأفكار والرؤى، ومن ثم تأتي الخطة التي تتضمن الكثير من المناقشات؛ ومنها: التكاليف المادية، وعدد الموظفين، ودراسة البيئة المحيطة بتنفيذ الفكرة، والأوقات المناسبة، والأهم مدى صلاحية الفكرة للمجتمع المحيط، "دراسة جدوى" حيث يأتي بعدها التنفيذ، وما يستلزم ذلك من متابعة ميدانية، وإدارية، وحل كل المشاكل التي تعترض طريق التنفيذ؛ حتى يصبح المشروع؛ من مجرد فكرة؛ إلى واقع متجسد على الأرض يؤتي ثماره كما خطط له، معززا بذلك نقاوة الرؤية وسلامتها، مع الاستمرار لتقييم النتائج المتحصلة من هذا المشروع أو ذاك، في حالة دينامكية مستمرة، مع الحرص على التجديد والابتكار، والتنوع، بما يلبي احتياجات السكان، ويعلي من قدر الدولة في رصيدها الحضاري، بين مختلف الدول، فـ "شروط الوجه الحضاري للدولة" هي أن لا يكون هناك فجوة أو فراغ، أو كسر في مسيرة التنمية، وإلا انتفى المسمى الحضاري، فالحضارة مجموعة تراكمية من الإنجاز البشري في بعديه، ولا يقبل المسمى أن تكون هناك حضارة "عرجاء" وهذا الأمر يستدعي أن تكون هناك جهود جبارة تبذل، وتضحيات كبيرة، وربط عمليات التنمية بعضها ببعض، مع تعزيز الشعور لدى القائمين على عمليات التنفيذ بأهمية مسيرة التنمية في البعدين، ووجوب المحافظة على ما تم إنجازه ومضاعفته، والدفع بهذا الشعور الوطني إلى الناشئة من خلال المناهج الدراسية؛ حيث ينشأ الطفل على حب الوطن والمحافظة على تقدمه ومنجزاته، محافظة تصل إلى مستوى الإيمان "العقيدة" وليست فقط مجرد تأدية دور تمثيلي فارغ من المضمون.
يأتي تعزيز البنى الأساسية وتنوعها من أولى الأولويات في أي مسيرة تنموية، وهذا التنوع يتقصى كل صغيرة وكبيرة في خطة التنمية الشاملة، سواء الخطط الحاضرة أو المرحلية، وهذا التقصي معناه أن تقف برامج التنمية على كل ما من شأنه أن يحقق الرخاء لأبناء الوطن الواحد من الألف إلى الياء، بحيث لا تترك فرصة لأي مواطن بأن يطالب بأي خدمة يراها غير مكتملة، وتحتاج إلى مطالبات، وهذا أمر؛ وإن كان غير يسير؛ على صانع القرار التنموي، ولكنه يمكن الوصول إليه ولو بقدر نسبي، فمساحة الاشتغال في برامج التنموي مساحة واسعة، وشاملة، وقد سخرت لذلك مؤسسات معنية في تخصصاتها المختلفة، لا يجب أن يفوتها أي تقصير في تقديم الخدمات بالشكل الذي يحقق الاكتفاء لطالبها، مع الأخذ في الاعتبار الموازنات المرصودة لتنفيذ الخطط الإنمائية عبر مراحلها الزمنية المعتمدة، هنا المسألة تحتاج فقط إلى كثير من الدقة في التنفيذ، وهذه الدقة تشمل الحاضر الزمني في توقيته، فالتأجيل، والتسويف سوف يذهب ببرامج التنمية إلى مزيد من التعقيد في ظل الظروف المستجدة المختلفة، وخاصة في الدول التي تعتمد كثيرا على مصدر واحد للدخل في تنفيذ برامجها التنموية، ولذلك يحرص؛ في الغالب؛ واضعو برامج التنمية على البحث عن مصادر أخرى داعمة، حتى لا تقع برامج التنمية في مأزق التقصير وعدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها أمام السكان في الوطن الواحد، وحتى لا تدخل المؤسسات المعنية بالخدمات في تفرعات المطالبات، وإبداء المبررات رضاء للجمهور فقط الذي يسمها بالتقصير في أداء الواجب.
تلعب المعيارية دورا محوريا وحيويا للنأي ببرامج التنمية عن السقوط في مأزق التقليد، أو تنفيذ برامج غير متوافقة وظروف البيئة المحيطة في الوطن، للتسليم المطلق أن للأوطان خصوصياتها التي تحافظ على استقلالياتها، وتفردها، واسترسالها الأصيل في المسار الحضاري منذ بدايات التشكل، وهي بدايات لا يمكن تحديد تأريخ نشأتها الأولى، وعندما نذكر المعيارية كمحدد أساسي لنجاح برامج التنمية المختلفة، فإننا بذلك نعود إلى حيث خصوصية البيئة التي تشهد تطورها التنموي الخاص، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تطبق برامج تنموية في بلد ما، ويعاد نسخها في بلد آخر، إلا فيما يخص البرامج التقنية المحتكمة على التقنية التي لا تنتمي إلى هوية محددة في الشرق أو الغرب، بقدر ما تنتمي إلى الإبداع الإنساني الواسع، مع الإيمان أنه ليس كل البيئات قادرة على احتضان البيئة التقنية الحقيقية، ومع الإيمان كذلك أن الإنسان المبدع في أي بقعة في العالم، يمكنه أن يكون مبدعا في بقعة أخرى مماثلة؛ شريطة توفر نفس ظروف البيئة الإبداعية، وهنا يتحمل النظام السياسي الدور الأكبر في تهيئة الظروف الإبداعية في المجالات التنقية على وجه الخصوص لتكلفتها المادية الكبيرة، ولنتائجها المهمة الكبيرة لرصيد الوطن.
يحل التنوع كأحد الضرورات المهمة في العملية التنمية، وهذا التنوع يذهب إلى حيث البحث الدائم عن الحلول للقضايا التنموية المستمرة، فالتحديات هي رديف أصيل لمسيرة التنمية، ومن هنا يستدعي دائما أن تكون هناك ورقة رابحة في مسائل حل القضايا الطارئة، وهذه الورقة لن تأتي هكذا بوحي الصدفة، أو تجلب من الرف، وإنما عبر إعداد كوادر لها القدرة على إيجاد الحلول للقضايا الصعبة لأي مشروع تنموي، وهذا ما يذهب إلى ضرورة تحقق هذا الجانب وهو التقدم العلمي المواكب للتطورات المختلفة التي يعيشها العالم، فالتنمية في بعدها الأفقي مسألة في متناول اليد، حيث الكم المتحقق في مختلف مناخات البنية الأساسية، ولكن التحدي الأكبر هو في البعد الرأسي؛ ويشار إليه هنا بـ "الفكر المتعمق الواسع" المتواكب مع متطلبات التنمية في حاضرها، وفي مستقبلها، وبدون تحقق هذا الفكر، ستظل التنمية تراوح مكانها من حيث الإنجاز، ومن حيث البحث عن حلول خلاقة، ومن حيث عدم القدرة على الإبداع والابتكار، مع أنه حتى هذا الإبداع أو الابتكار يحتاج إلى بيئات حاضنة تعلي من سهمه، وتعزز وجوده، وتنمي مساراته المختلفة، ويبقى هنا الرهان أكثر على إبن الوطن، المعني أساسا بالتقدم والتطور، وتوفير سبل الحياة الكريمة، بما يحفزه أكثر لأن يبدع، ويخلص، ويضاعف من الكم المنجز في مسيرة التنمية، وفي هذا التنوع المشار إليه في هذه المناقشة يستحضر فاعلية السلطة التشريعية، وما توهبه من أفكار نابعة من عمق المجتمع، فهذه السلطة؛ بقدر ما هي جسر عبور ما بين القطاع العريض من المواطنين، وما بين السلطة التنفيذية؛ هي في الوقت نفسه الفاعل المهم والداعم؛ في تصويب مسارات برمج التنمية المختلفة، من خلال تعديل لما هو قائم، واقتراح لما هو آت، مستشعرة مسؤوليتها الاجتماعية والوطنية على حد سواء، للوصول إلى الغايات الكبرى لأهداف التنمية الحقيقية؛ ويأتي في مقدمة هذه الأهداف التوزيع العادل لبرامج التنمية على امتداد الوطن الكبير.
