الخطلة .. طقس اللقاء والوداع
يصعب على الإنسان رؤية تغيُّر وتبدُل عاداته أو طقس من الطقوس ولا يفعل شيئًا إلا متابعة السيرورة وانتظار الصيرورة، فيحاول تجميع الجزئيات المنفلتة من الذكريات الغابرة ويشكل منها صورة للماضي أو للحنين، بل الأنكئ من ذلك هو أن يتحول الطقس إلى مادة أدبية تُكتب وتنسى فلا تحرك شيئًا إلا في ذات كاتبها.
هكذا تشدني العادات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي مارستها أو كنت جزءًا منها، ويتعذر عليّ إيجاد من يشاركها معي أو يُعبّر عنها كما أُعبر عنها، فحين تمر بي الذكريات المجسدة في طقوس فصلية تتبدل وفق مشيئة التغيير، أشعر بوجع التناسي ولا أملك إلا التسليم بالأمر الواقع والقاصي عليّ وعلى النمط الثقافي المنتمي له، فمنذ يومين بدأت خطلة الإبل في معظم جبال ظفار أو بالأصح في الشريط الشجري أو ما تبقى منه.
ولفظة (الخطليت) القادمة من اللغة الشحرية تعني تسريح النوق في المراعي واختلاط قطعان الإبل واستئناس الرعاة بالموسم تحت تأثير نشوة اللقاء وبهجة المشاركة في الرعي بعد شهور من تباعد الرعاة وتعذر التجمع.
إن الخطليت التي عرفتها في الطفولة لم يتبق منها شيء سوى تسريح النوق في المراعي، فمعظم المعاطن لم تعد معاطن بعدما استقر بها الإنسان وحولتها الحداثة إلى قرى تحرسها إضاءة الأعمدة الكهربائية، وزاد عدد قطعان الإبل أضعافا مضاعفة حتى أصبحت تشكل تحديًا للبيئة والغطاء الشجري على وجه التحديد، ووفدت القوى العاملة الوافدة إلى نشاط الرعي بسبب انشغال الرعاة بأعمالهم ووظائفهم، وغابت وجوه مشاهير الرعاة وطرقهم في الرعي والعناية بالنوق والبيئة معًا.
كما انقطع جزء من المجتمع عن المشاركة في الخطيل بعد أن كان حضور الأسر نساءً وأطفالًا جزءًا لا يتجزأ من الفرحة والمتعة، متعة اللقاء ودموع الوداع، كنا في الطفولة نتمنى الخطلة مع أسر لديها أطفال لنستمتع مع أقراننا باللعب وتقاسم اللحظات الجميلة.
يستمر اللقاء بين رعاة الإبل باستمرار اخضرار المراعي ووفرتها، وحين تُستهلك الأعشاب والمراعي يبتعد الرعاة بنوقهم عن المعاطن التي تستقر بها الأسر، فتبدو المعاطن في المساء خاوية من الحركة والنشاط اللهم إلا ممارسة الأطفال للعبهم في ساحة المعطن وانبعاث الدخان من الأثافي المنصوبة عند الخيام.
حين يتفارق الرعاة الذين يحضرون الموسم بكل أناقتهم وزهوهم وفرحتهم أرى دموعهم تهبط على لحاهم المخضبة بالبياض، مشهد لا يفارق الذاكرة أبدًا رؤية الكبار وهم يتوادعون ويبكون، كانت الحياة بسيطة إلى درجة أن تنقل الأسر من مكان إلى آخر مُيسر وسهل على الدوام، لا يحتاج إلى نقل أثاث أو غيرها.
إن توظيف (الخطليت) في السياحة الثقافية مهمة جدًا نظرًا لتفرد سلطنة عمان بهذه العادة المتوارثة عبر الأجيال كثقافة إنسانية خالصة وخاصة بمجموعة سكانية تبعث الفرح والسرور في فنون ذات طابع ووقع مميزان للمناسبة المذكورة مثل فن (المشعير) الذي يُقام في ليالي السهر ضمن مجتمع واحد ينشد الوئام والسعادة، ناهيك عن فني (النانا والدبرارت)، إذ لم يكن الصرب (الربيع) حكرا على بيئات الساحل والبادية والمدن أو خاص بالمنتجات الموسمية كحصاد اللوبيا (الدجر) والذرة وغيرها من المحاصيل، بل هناك ثقافة لامادية مرتبطة بموسم الصرب.
والمقصود بإدراج الخطليت كمناسبة سياحية وثقافية هي تطوير الفكرة بحيث تستقطب المهتمين والمعنيين بالثقافة الشفوية وإبرازها فنيًا وثقافية عبر المشاركة في الرعي وإحياء ليالي المشعير والنانا والدبرارت وغيرها من الفنون الريفية المعبّرة عن ثقافة الجبال، ومشاركة الأجيال في ممارستها والاعتناء بها لتبقى قيمة معنوية ثقافية وإنسانية مهمة في حياة وذاكرة الأجيال.
تفقد الثقافة عناصرها إذا نُسيت أو استعصت على استيعاب التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهذا لا بد من مُسايرة الواقع وتطوير وتحسين ما يمكن تطويره وتحسينه عبر الإبقاء على العادات الموسمية والتعايش معها وممارستها والاستفادة منها.
