الأسلحة النووية.. للردع وليست للاستخدام !!

27 سبتمبر 2022
27 سبتمبر 2022

بعد اقتحام القوات الروسية للحدود الأوكرانية بيومين تقريبا، وتحسبا من جانب بوتين للاحتمالات والمدى الذي يمكن أن يصل إليه رد الفعل الغربي، رفع بوتين حالة الاستعداد في قوات الردع النووية الروسية، وهو إجراء وقائي بالمفهوم العسكري والسياسي أيضا وساعتها وصلت الرسالة الروسية، وهو ما أدىّ إلى تريث واشنطن والعواصم الأوروبية في حساب مواقفها وردود فعلها على الصعيد العملي، والاقتصار على الإدانة الإعلامية والسياسية للتحرك الروسي، لذا ضجت وسائل الإعلام الغربية بالحديث عن الخطر النووي الروسي وما قد يتعرض له العالم من مواجهة وحرب نووية محتملة يمكن أن تدمر العالم، ثم اختفت هذه الحملة الإعلامية، خاصة وأن موسكو لم ترتكب ما يغذي الشكوك الغربية والمخاوف من التورط في مواجهة نووية على أي مستوى، وكان الانضباط النووي الروسي هذا من بين العوامل التي دفعت أمريكا والغرب إلى البدء في تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا وبخطوات متدرجة ومتصاعدة حتى وصلت إلى الوضع الذي عليه الآن والذي وصفه بوتين بقوله «إن الغرب يشن حربا على روسيا».

وخلال الأيام الأخيرة، وبعد نجاح أوكرانيا في التقدم في جبهة خاركيف، وبعد تعدد المؤشرات الداعية والمحبذة للتفاوض بين أوكرانيا وروسيا لوقف الحرب، انقلبت وسائل الإعلام وحفلت التصريحات الأمريكية والأوروبية عموما بالحديث عن الخطر النووي الروسي وتصعيد موسكو للحرب، وتهديدها للدول الأوروبية باستخدام أسلحة نووية، وكانت البداية هي حديث بايدن الذي أخذ شكل تحذير لبوتين يقوله «لا تفعل لا تفعل لا تفعل.. وأن الرد الأمريكي سيكون بحجم الفعل الروسي»، ثم جاء إعلان بوتين يوم 21 من سبتمبر الجاري التعبئة الجزئية لضم 300 ألف جندي من الاحتياط إلى الجيش الروسي وزيادة الإنفاق العسكري وسريان ذلك بشكل فوري، ليكون بمثابة المبرر والأرضية لحملة الاتهامات الراهنة لروسيا بالتصعيد في أوكرانيا، وبالتلويح بالتهديد النووي، والتنديد بذلك على نطاق واسع. الجدير بالذكر أن هذا الموقف الغربي استند في الواقع على استنتاج وتفسير غربي لتصريح بوتين الذي قال فيه - خلال إعلانه التعبئة الجزئية الأربعاء الماضي - «إن روسيا ستدافع عن نفسها بكل ما أوتيت من قوة في ترسانتها الضخمة إذا واجهت تهديدا». وقال أيضا إن «بلادنا تملك أسلحة دمار شامل وفي بعض أجزائها أكثر تطورا من نظيرتها لدى دول الناتو. وأمام أي تهديد لوحدة أراضينا أو سيادتنا نحن قادرون على استخدام هذه الأسلحة، وهذا ليس خداعا». وإذا كان تصريح بوتين يحمل طابع التحذير مما قد تلجأ إليه روسيا في حالة تعرضها للتهديد الجاد، فإن التصريح في ذاته وفي محتواه هو ما يدلي به أي مسؤول في موقع مماثل يريد أن يحذر القوى المتربصة ببلاده أو المعادية لها لوقف عدائها أو للحد منه، أما الإشارة إلى الأسلحة النووية فقد جاءت ضمن تصريح ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي والرئيس الروسي السابق عندما قال «إن بلاده إذا تعرضت لتهديد سيادتها أو وحدتها الإقليمية فإنها ستستخدم كل أسلحتها لحماية نفسها، بما في ذلك الأسلحة النووية لحماية أراضيها والمناطق التي دخلت ضمن الأراضي الروسية». وقد جاءت تصريحات ميدفيديف بعد تصريحات بوتين وبعد بدء الحملة الغربية لشيطنة موسكو.

على أية حال فإن الحملة الغربية الراهنة والتي تحاول الإيحاء بأن موسكو على وشك استخدام أسلحة نووية لا يمكن فصلها عن الملابسات والتطورات الراهنة في أوكرانيا وعلى الصعيد الدولي، وفي مقدمتها أن واشنطن تريد إغلاق الطريق أمام إمكانية بدء مفاوضات جادة بين روسيا وأوكرانيا لوقف الحرب، واتهام بوتين بالتصعيد والتهديد بالأسلحة النووية من شأنه أن يثير مخاوف وقلق الجميع، خاصة إذا ترافق مع ذلك محاولة تصوير بوتين بأنه «متهور وأنه يستهين بالسلام والأمن وقواعد القانون الدولي» وهو ما تقوم عليه الحملة الراهنة. يضاف إلى ذلك أن الحديث عن تقدم القوات الأوكرانية في جبهة خاركيف قد توقف بالفعل، بل إن أوكرانيا قلقة كثيرا من المرحلة القادمة من الحرب ومن ثم فإنه لا معنى للحديث عن انتصار أوكراني، وذلك يفسر ما قاله بايدن إن أوكرانيا «تقدمت في بعض المواقع»، لذلك فإن اتهام بوتين «بالتصعيد الخطير وبالابتزاز النووي»، وتصوير إعلان التعبئة الجزئية على أنه دليل ضعف روسي هو لتغطية هذا الضعف. أما السبب الآخر للحملة الغربية فهو بدء اجتماعات الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة ومحاولة استغلال اجتماعات لزيادة الانتقادات لروسيا ولشيطنة قيادتها وتصويرها على أنها تهدد السلام والأمن الدوليين، وهو ما ظهر بوضوح في خطب الزعماء الغربيين وفي كلمات وزير الخارجية الأمريكي ونظرائه الأوروبيين الذين شاركوا في جلسة مجلس الأمن الدولي حول أوكرانيا يوم الخميس الماضي، وتصوير أوكرانيا على أنها مشكلة العالم، برغم أن هناك الكثير من المشكلات العالمية التي تستحق الاهتمام وفي مقدمتها المشكلة الفلسطينية بالطبع. وإذا كان الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي تحدث عبر الفيديو إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يستطيع الخروج عن حدود الموقف الأمريكي قد قدم خمسة شروط للسلام، هي معاقبة روسيا وحرمانها من حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، وإعادة الأمن إلى أوكرانيا، وسلامة الأراضي الأوكرانية، والضمانات الأمنية، وإنشاء صندوق لتعويض أوكرانيا، فالمؤكد إنها شروط تتسم بالكثير من العمومية وتحتاج إلى مفاوضات طويلة لتحديد المقصود منها، إذ إن الهدف منها هو محاولة كسب تعاطف العالم.

وبينما يطغى الاتهام الغربي لروسيا بالتهديد النووي على اجتماعات الأمم المتحدة، فإنه يتزامن مع ذلك رواج لوجهات نظر واجتهادات حول سبل استخدام بوتين للأسلحة النووية، وحول أماكن ومواقع استخدامها المحتملة، وهل ستكون أسلحة نووية تكتيكية - أي صغيرة - أم بالحجم الكامل للقنبلة النووية العادية، وهل سيقوم بوتين بتفجير نوي تكتيكي فوق البحر الأسود أو في المحيط المتجمد الشمالي؟ وبينما يجر ذلك كله العالم إلى الخوف والقلق، وهو ما أكدت عليه واشنطن على سبيل المثال، فإنه ينبغي التأكيد على نقطتين أساسيتين:

* أولهما أن الاستخدام الأمريكي للسلاح النووي عام 1945 ضد هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين لإنهاء الحرب العالمية الثانية كان هو الاستخدام الأول، وهو على الأرجح الاستخدام الأخير، ليس فقط للنتائج المرعبة لاستخدام السلاح النووي ولحجم الدمار والتلوث الإشعاعي الواسع النطاق، ولكن أيضا لأن العالم اليوم يختلف عما كان عليه عام 1945 ولم تعد أمريكا هي وحدها التي تمتلك السلاح النووي. من جانب آخر فإن توازن الرعب النووي بين موسكو والغرب قد حال في الواقع دون استخدام الأسلحة النووية على مدى العقود السبعة الماضية، لإدراك الجميع أن الحرب النووية إذا اندلعت فإنها تعني فناء العالم، بغض النظر عن كل ما يقال حول إمكانية تحمل أحد الأطراف للضربة النووية الأولى والرد عليها بأقوى منها، والمؤكد أن قيادات القوى النووية تدرك ذلك ولا تود الانتحار لشعوبها.

* النقطة الثانية هي أن القوى النووية وخاصة روسيا وأمريكا تمتلك الكثير من وسائل وإجراءات واتفاقيات الحد من احتمالات الخطأ البشري أو التقني بالنسبة لإطلاق الأسلحة النووية، وأن إنتاج الأسلحة النووية التكتيكية هو لإمكانية المناورة عند الضرورة. وإذا كان التهديد الفعلي الوجودي للدولة أو لأمنها القومي أو لوحدة أراضيها قد يدفعها إلى اللجوء لـ «الخيار شمشون»، إلا أن السلاح النووي هو في جوهره للردع وليس للاستخدام، بمعنى موازنة القوة مع طرف أو أطراف أخرى، ولضمان الوجود، ولوقف التهديدات التي قد تتعرض لها الدولة عند نقطة معينة، ولذا فإن الحديث عن تهديد نووي روسي للدول المجاورة لروسيا أو لأوروبا والعالم هو في الواقع مزاعم ودعاية يراد بها شيطنة روسيا وقيادتها. وما أعلنته موسكو بشأن عقيدتها النووية هو نفسه ما تأخذ به الدول النووية الأخرى لحماية وجودها وأراضيها وشعبها، و لا يختلف الأمر بين قوة عالمية وأخرى إقليمية.