موسكو وكييف.. اقتراب حذر مما لابد منه !!
إذا كانت الحرب هي الأداة العنيفة التي تستخدمها السياسة لتطويع مواقف الخصوم، أو لفرض صيغ وخيارات معينة في العلاقات بينهم، ولصالح الطرف الأقوى، فإن الديبلوماسية، أو بمعنى أدق التفاوض هو الأداة الناعمة، التي تستخدمها السياسة لتسوية الخلافات وترجمة موازين القوى بين الأطراف المعنية إلى اتفاقات وتفاهمات تخدم مصالح الأطراف المختلفة، برغم تعارضها، ولوقف حلقة العنف، طالت أم قصرت، ومن ثم فإن الترابط قوي وعميق ومستمر أيضا بين الحرب والديبلوماسية، والمؤكد أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا لا تخرج عن ذلك، ومن تابع التطورات بين موسكو وكييف منذ أن بدأت العمليات الروسية في 24 فبراير الماضي، يدرك ما حدث من تغيرات وتفاعل بين الحرب والدبلوماسية، وتكتيكات الاقتراب الحذر مما لابد منه في النهاية وهو التفاوض لإنهاء القتال وإعادة صياغة العلاقات بين روسيا وأوكرانيا بتوافق يسمح بإمكانية بناء السلام والتعايش بين الدولتين مرة أخرى، وهو أمر لا مفر منه في النهاية. وفي هذا الإطار فانه يمكن الإشارة إلى ما يلي:
أولا: إنه في ظل التفاوت الكبير في القوة والقدرات المسلحة بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما تجسد في التقدم الكاسح والمدمر لجحافل الجيش الروسي في جنوب وشرق أوكرانيا، والحديث الروسي عن شروط، أقرب إلى التعجيزية، مثل نزع سلاح أوكرانيا، واستسلامها للشروط الروسية وغير ذلك، فانه من غير الواقعي في المقابل، أن تتحدث القوى الغربية عن انتصار أوكراني مثلا، أو أن تتصور أن مساعداتها العسكرية والمالية السخية لكييف قادرة على قلب المعادلة رأسا على عقب بشكل تام، أو أن القفاز الأوكراني يمكنه إضعاف روسيا بالشكل الذي ترسمه الافتراضات الغربية غير الواقعية، وذلك لأسباب كثيرة ومعروفة، بغض النظر عما تقوم به الآلة الإعلامية الغربية من تضخيم متعمد، لم تستطع الآلة الإعلامية الروسية مجاراته في الواقع. ومع التسليم بحق أوكرانيا في استعادة أراضيها ورفض اجتياح أراضي الغير والسيطرة عليها بالقوة، فانه من المهم والضروري النظر إلى ما حدث على جبهة خاركيف في شرق أوكرانيا خلال الأيام الماضية في إطار واقعي ودون تهويل، كما يهلل الغرب، ودون تهوين أيضا كما تحاول موسكو تصوير الأمر..
وإذا مصطلحات «إعادة تجميع القوات»، أو «إعادة تنظيمها وإعادة انتشارها»، هي مصطلحات عسكرية ذات دلالة، تستخدم عادة في حالات نجاح هجوم معادي مباغت، أو نجاح اختراق القوات المعادية لصفوف القوات وتعرض القوات لخسائر كبيرة تفرض إعادة التجميع وإعادة التشكيل والانتشار في مواقع جديدة على ضوء الموقف على الأرض، وهو ما استخدمته وزارة الدفاع الروسية في وصفها ما حدث في جبهة خاركيف، فانه من الواضح أن التقدم المفاجئ والسريع للقوات الأوكرانية قد تم بعد تراكم المساعدات الغربية لأوكرانيا وتزويدها بأسلحة أكثر تطورا من ناحية، وبعد تزويدها أيضا بمعلومات الأقمار الصناعية الغربية التي ترصد أوضاع القوات الروسية على مدار الساعة، وتحديد مواقع ضعف يمكن للقوات الأوكرانية شن هجوم مباغت فيها، ليس فقط لزيادة ثقة الرئيس الأوكراني زيلينسكي، ولكن أيضا للتأثير في معنويات بوتين وقواته، ومحاولة تقديم صورة ضرورية للتمهيد للتقدم نحو المفاوضات، وتوفير قدر من القوة للمفاوض الأوكراني من ناحية ثانية، وحجم التهليل الغربي له دلالته في هذا المجال. وعلى الجانب الروسي فان القوات الروسية تملك لو أرادت القدرة على إعادة التقدم في خاركيف مرة أخرى، وبالتالي فإنه ليس مصادفة أبدا ألا تقوم القوات الروسية بذلك، كما انه ليس مصادفة أيضا أن يقول بوتين خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي عقدت في سمرقند عاصمة أوزبكستان مؤخرا، إن هدف العملية الروسية هو «تحرير دونباس» التي تسيطر عليها القوات الروسية بالفعل منذ أشهر ويعني ذلك ببساطة انحسار أو تقلص أهداف العملية الروسية في أوكرانيا بشكل كبير عما كانت عليه في البداية.
ثانيا: إنه من المؤكد أن تقدم القوات الأوكرانية في خاركيف له أهميته الرمزية الكبيرة للقوات الأوكرانية وللرئيس زيلينسكي، الذي حرص على زيارة مدينة «ايزيزم» شرق أوكرانيا حيث رعى عملية رفع العلم الأوكراني أمام مجلس المدينة، وبغض النظر عن تعرضه لحادث سير خلال عودته من «ايزيوم» إلى «كييف» يوم الأربعاء 14 سبتمبر الجاري، وهو أمر يصعب تجاهله، فان الرئيس الأوكراني يربط بين إمكانية تقدم قواته في الحرب وبين تلقي المزيد من المعدات العسكرية والمساعدات المالية من أمريكا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل حيث طلب من أمريكا صواريخ طويلة المدى، وهو ما رفضته واشنطن، وستقدم بدلا منها صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى للدفاع الجوي، وذلك بعد تحذير روسي واضح وحاسم، وقد طلب زيلينسكي من إسرائيل أسلحة دفاع جوي، ولم تحسم تل ابيب موقفها حتى الآن. وتجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي خاصة فرنسا وألمانيا بدأ يقلل عمليا من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، بغض النظر عن استمرار التأكيدات الإعلامية الأوروبية بالوقوف مع أوكرانيا حتى «النصر» !! وبالتوازي مع ذلك فان فرنسا وألمانيا أعربتا بشكل واضح في الأيام الأخيرة عن تأييدهما للتفاوض بين موسكو وكييف لوضع نهاية للحرب وكانت تصريحات المستشار الألماني شولتز الأسبوع الماضي واضحة ومحددة حيث دعا إلى «التفاوض لوقف إطلاق النار وأن على روسيا التراجع وسحب قواتها»، وسواء كان هذا الموقف المتزايد الوضوح بسبب الرغبة الأوروبية في تجنب أزمة الغاز خلال الشتاء القادم، أو الحد من نزيف مساعداتها العسكرية والمالية لأوكرانيا، أو امتصاص الاحتجاجات التي تتزايد في فرنسا وألمانيا ضد المساندة الأوروبية لأوكرانيا وضد العقوبات على روسيا، فان الاتحاد الأوروبي سيؤيد وبشكل كبير التوجه إلى المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، وذلك برغم المعارضة الأمريكية المعروفة للتفاوض الجاد بين موسكو وكييف لإطالة أمد انهاك روسيا..
ثالثا: إن الأشهر الأولى للحرب شهدت مفاوضات روسية أوكرانية لوقف القتال، وللاتفاق على ضمانات أمنية لأوكرانيا، بل وتحديد الأطراف الدولية الضامنة لذلك، إلا أن المفاوضات تعثرت بسبب المعارضة الأمريكية. وبغض النظر عن الرغبة العلنية للرئيس زيلينسكي في الاستمرار في القتال لاستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا، ومن ثم إعلان رفض التفاوض مع موسكو حتى تسحب قواتها، إلا أنه يدرك جيدا أن استمرار القتال لا يمثل ضمانة لتحقيق ذلك، وأن تقدم قواته عسكريا في بعض المناطق مرهون بالتأكيد بحجم ونوعية المساعدات الغربية لقواته، ولذا فانه ليس من المستبعد بعد التقدم النسبي في خاركيف أن يقترب زيلينسكي من استئناف المفاوضات والاتصالات مع روسيا في الفترة القادمة، خاصة وانه عاد للحديث عن الضمانات الأمنية التي يرغب في الحصول عليها، كما أنه يدرك ما يمكن أن يطرأ على الموقف الأوروبي من تغير بسبب أزمة الغاز الروسي وإذا اتسع نطاق الاحتجاجات الداخلية في فرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى. وعلى الجانب الروسي فانه من الواضح أن موسكو تريد التفاوض لوقف القتال ووضع أسس للعلاقات المستقبلية مع أوكرانيا، فقد أكد بوتين، سواء في حديثه المطول مع المستشار الألماني شولتز 90 دقيقة الأسبوع الماضي، أو خلال قمة منظمة شنجهاي للتعاون، على رغبة روسيا في وقف الحرب «في أقرب وقت ممكن وفي التفاوض وأن زيلينسكي هو من يرفض التفاوض». وإذا أضفنا إلى ذلك أن الصين والهند أيدتا التفاوض، وهو ما تفهمه بوتين، فان موسكو وكييف تقتربان بحذر من استئناف المفاوضات لوقف الحرب، وقد تكون هناك اتصالات بينهما الآن تمهيدا لبلورة الأمر خلال الفترة القادمة، ومع أن واشنطن ستحاول تعطيل ذلك بشكل ما إلا انه لا مناص من التفاوض في النهاية.
