الفلسطينيون وثمن شراء رضا إسرائيل!
على امتداد الأشهر الماضية تساءل الكثيرون بدهشة حول أسباب ودوافع التناقض الصارخ في الموقف الغربي بوجه عام والأوروبي بوجه خاص حيال ما يجري في أوكرانيا، وما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة وأن ما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات وجرائم يندى لها جبين الإنسانية، وتتعارض مع كل القيم والمواثيق الدولية منذ أكثر من سبعين عاما. ومع الوضع في الاعتبار الاختلاف في طبيعة وملابسات الحالتين إلا أنه لا يمكن المقارنة بين الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي ومحاولات اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وبين الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية في عملية ستنتهي بالضرورة بتسوية سلمية ستبقى معها أوكرانيا دولة قائمة لها حريتها وسيادتها وفق تسوية سلمية لا مفر منها في النهاية. أما إسرائيل فإنها تتعامل مع القضية الفلسطينية على أنها قضية وجودية من حيث المبدأ. ولعل مما سلط الضوء على هذا الجانب بشكل فاضح هو الحملة التي تعرض لها الرئيس الفلسطيني محمود عباس مؤخرًا -ولا يزال- بسبب تصريحاته حول ما ارتكبته إسرائيل من مجازر وانتهاكات ضد الفلسطينيين خلال الحرب التي شنتها إسرائيل ضد حركة الجهاد الإسلامي في غزة والتي عرفت بحرب الأيام الثلاثة في الفترة من 6 إلى 8 أغسطس الماضي. ولم تتوقف إلا بجهود الوساطة المصرية التي خالفت إسرائيل تعهداتها فيها مما أدى إلى أزمة في العلاقات مع القاهرة أشار إليها وزير الدفاع الإسرائيلي. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى الآتي:
أولا: إنه منذ إنشاء إسرائيل بدعم وتأييد من جانب القوى الدولية الرئيسية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية -بما فيها الاتحاد السوفييتي السابق- وهو ما أدى إلى تأييد الأمم المتحدة إنشاء دولة إسرائيل بموجب قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947 اعتادت الكثير من دول أوروبا والعالم العمل بمختلف السبل من أجل إرضاء إسرائيل وكسب ودها، ليس لأن إسرائيل دولة قوية أو مؤثرة في العالم في ذلك الوقت والعقود التالية، ولكن لأن إسرائيل حرصت على أن تربط نفسها بعجلة المصالح الأمريكية في مرحلة بدأت فيها الولايات المتحدة تحل محل بريطانيا على صعيد التأثير العالمي، وفي تكرار لخبرة قيادات الحركة الصهيونية قبيل الحرب العالمية الأولى وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وفي مقدمتهم هرتزل وحاييم وايزمان وديفيد بن جوريون وغيرهم، ومن خلال هذا الربط، وما تقوم به إسرائيل من خدمة للمصالح وللمخططات الغربية في الشرق الأوسط تحولت إسرائيل إلى قضية في السياسة الداخلية الأمريكية، وإلى بوابة مهمة ومؤثرة تفتح الطريق أمام الدول الأخرى للتواصل ولتحقيق المصالح مع الولايات المتحدة كقوة عظمى في عالم اليوم ولا يزال هذا الوضع قائمًا ومستمرًا حتى الآن، وهو ما تستفيد منه إسرائيل كثيرًا حتى في علاقاتها مع دول المنطقة ذاتها والأمثلة كثيرة ومعروفة في هذا المجال.
وإذا كانت إسرائيل قد قررت اتخاذ الجانب الأوكراني في الحرب الروسية على أوكرانيا، وذلك بسبب ديانة زيلينسكي اليهودية، وبسبب إعجاب أوكرانيا في عهده بإسرائيل، إلى حد الحديث عن التشابه بين الدولتين وهو ما أشار إليه مسؤولون أوكرانيون، فإنه ليس غريبًا أن تظهر الدول الأوروبية انحيازها وسيرها خلف الخطوات الأمريكية في دعم أوكرانيا وفرض عقوبات على روسيا، حتى ولو كانت تدفع هي جانب مؤلم من ثمنها، وبالتوازي مع ذلك، فإنها تغض الطرف عن جرائم إسرائيل في غزة والضفة الغربية، التي ازدادت وتيرتها وهمجيتها، خاصة مع التضاؤل النسبي في درجة الاهتمام بالقضية الفلسطينية بفعل عوامل عديدة لا نعفي الفلسطينيين أنفسهم من بعضها بشكل أو بآخر، يضاف إلى ذلك أن الأوضاع العربية الراهنة لم تشكل في الحقيقة درجة كافية من الضغط الملموس على القوى الإقليمية أو الدولية لصالح الفلسطينيين وقضيتهم العادلة، فليست هناك أي قوة، إقليمية أو عالمية، خسرت أو دفعت ثمنًا لتأييدها إسرائيل، بل على العكس تكسب جميعها من ذلك، وهو ما يعود في جانب منه إلى الضعف الشديد للموقف الجماعي العربي، ورحم الله الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ثانيا: إنه بالرغم من أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد أعرب عن استعداده لاستئناف محادثات السلام مع إسرائيل المتوقفة منذ عام 2014 بسبب السياسة الاستيطانية لإسرائيل، فإن الهجوم الشرس ضد عباس، في أوروبا وخاصة ألمانيا وفي أمريكا وكل الدوائر المتصهينة بشكل أو بآخر، جاء بسبب انتقاد عباس للعربدة الإسرائيلية في غزة، حيث قال: إن إسرائيل «ارتكبت خمسين محرقة في حق الفلسطينيين» ولم يتورع هؤلاء المتصهينون عن قلب الحقيقة والحديث عن إسرائيل الضحية وعن عباس والفلسطينيين «كجلادين» وجناة؛ لأنهم فقط يطالبون بحقوقهم المشروعة ويسعون إلى الحصول على ما اعترف به القانون والشرعية الدولية والمجتمع الدولي لهم منذ عقود وهو ما ترفضه إسرائيل وتعمل بكل السبل على القضاء على أية فرصة مناسبة لحل الدولتين، الذي يحظى بتعاطف وتأييد عام على المستوى الدولي وترفضه إسرائيل.
وإذا كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تقدم باستمرار المزيد من المساعدات العسكرية والتقنية والاقتصادية وبالطبع السياسية لإسرائيل، كجزء من التعامل مع قضايا السياسة الداخلية الأمريكية وسياسات واشنطن في الشرق الأوسط أيضًا، فإن ألمانيا لم تستطع التخلص حتى الآن، وعلى مدى الستين عامًا الماضية، من ابتزاز إسرائيل لها بالحصول على تعويضات مالية سنوية ضخمة للتكفير عن المحرقة النازية، وأكثر من ذلك فإن برلين قد أحيت في الخامس من سبتمبر الجاري الذكرى الخمسين لاحتجاز عدد من الرياضيين الإسرائيليين المشاركين في أوليمبياد ميونيخ من جانب مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين عام 1972، بل وتقديم مزيد من التعويضات لأسر ضحايا هذه العملية. وفي حين تسعى دول كثيرة إلى إرضاء إسرائيل على حساب الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة وبطرق شتى، فإن إسرائيل ذاتها تسعى دومًا إلى تحسين صورتها في العالم واستغلال، أو بمعنى أدق توظيف، بعض جوانب المواقف السياسية العربية حيالها في السنوات الأخيرة لخدمة ذلك على أوسع نطاق ممكن، ومن هذا المنطق تعمل إسرائيل على محاربة أي توجهات ضدها خاصة داخل الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها وإلغاء قرارات سابقة تدينها، والمثال الأشهر في ذلك هو إلغاء «اليونسكو» لقرارها الذي «ساوى بين الصهيونية وبين العنصرية» والذي أدى إلى انسحاب أمريكا من اليونسكو لأكثر من عشرين عاما في أواخر القرن الماضي.
ثالثا: إنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن ما يتعرض له الرئيس الفلسطيني محمود عباس، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من ضغوط مباشرة وغير مباشرة لا تستهدف فقط إضعاف موقفه وموقعه على الصعيدين الفلسطيني والإقليمي، ولكنها تستهدف أيضا التهيئة للدفع بشخصيات فلسطينية محددة ومعروفة لتنافسه أو لتحل محله عندما تسمح الظروف الفلسطينية والإقليمية والدولية بذلك، من أجل الإجهاز على القضية الفلسطينية بإدخالها بشكل أو بآخر ضمن الصيغ المقترحة لإعادة تشكيل المنطقة وإعادة توجيه العلاقات بين إسرائيل والدول العربية بوجه عام، غير أن الرئيس الفلسطيني وبرغم ما تعرض ويتعرض له، يمتلك رصيدًا نضاليًا معروفًا يضمن له القدرة على الدخول في تسوية مع إسرائيل إذا توفرت الشروط العملية الممكنة لتحقيقها، فهو قادر على التعامل مع مختلف القوى الفلسطينية، داخل الأراضي الفلسطينية وداخل إسرائيل وفي الشتات كذلك، هذا فضلا عن اتصالاته مع التيارات الإسرائيلية المختلفة وخاصة تلك المؤيدة للسلام مع الفلسطينيين. ولأن هذه تعد أوراقًا لصالح أبو مازن، فإن خبرته الشخصية والسياسية مكنته حتى الآن على الأقل من تجاوز الكثير من الضغوط ومحاولات الإزاحة المتعددة والحفاظ على قدر من الزخم للقضية الفلسطينية، وستظل المعضلة الكبيرة أمامه متمثلة في أن الكثيرين يحاولون شراء رضا إسرائيل على حساب الفلسطينيين وقضيتهم المشروعة من ناحية، وفي التحديات والمشكلات التي يعاني منها الموقفين الفلسطيني والعربي من ناحية ثانية.
