الثقافة والتغير المناخي

03 سبتمبر 2022
03 سبتمبر 2022

يشكل التغير المناخي أحد أهم التحديات التي تواجه العالم في الآونة الأخيرة، ويُعَّد العام 2022 من أهم الأعوام التي عمل العالم فيها عملا حقيقيا ومكثَّفا من أجل التخفيف من آثار هذا التغير على الحياة الإنسانية، خاصة بعد تداعيات كوفيد (19)، والانتكاسات الاقتصادية التي كان لها الأثر الكبير في التسريع من آثار هذه التغير؛ لذا فقد اجتمع العالم في أغسطس الماضي – بحسب الأمم المتحدة – في كونمينغ/ الصين لاعتماد إطار عمل جديد "لحماية التنوع البيولوجي في العالم أُطلق عليه رؤية 2050 (العيش في تناغم مع الطبيعة)"؛ بهدف إعداد إطار عمل لتنفيذ إجراءات تُحدث تحولا في علاقة العالم بالتنوع البيولوجي، وضمان (تحقيق الرؤية المشتركة للعيش في تناغم مع الطبيعة بحلول عام 2050).

يأتي ذلك ضمن أكثر من عشر فعاليات عالمية ما بين مؤتمرات وتقارير وجلسات حوارية تعقدها منظمة الأمم المتحدة في العديد من العواصم في أرجاء العالم، بهدف اتخاذ مجموعة من القرارات الحاسمة بشأن التغير المناخي وآثاره، والتي تُشكل أولوية عالمية في علاقتها بالتنمية الإنسانية في شتى جوانبها، ولهذا فإن هذه المؤتمرات والتقارير تبحث في مجملها؛ الفهم المادي للنظام المناخي، وتأثيرات تغير المناخ، والتقدم المُحرز في التخفيف من تلك الآثار، والجهود المبذولة للحد من الانبعاثات، إضافة إلى دراسة قدرة المجتمعات على التكيف مع المتغيرات المناخية، والخيارات المتاحة (لخلق مستقبل مستدام)، وتقييم تلك الحلول القائمة على الابتكار في قدرتها على إيجاد حلول سريعة وفاعلة في مجال الطاقة والأنظمة الحضرية، وقطاعات الزراعة والغابات، والمباني والنقل والصناعة.

ولأن التغير المناخي يرتبط بأنماط الحياة الإنسانية كلها، فإن ارتباطه بالثقافة يُعد ارتباطا مباشرا؛ ذلك لأنه يرتبط بقدرة المبدع على التعبير عن البيئة في علاقتها بالمجتمع وتطوراته من ناحية، كما يرتبط بالإمكانات المعمارية والفنية التي تؤسس البنية الثقافية، ولهذا فإن تأثيرات التغير المناخي على الثقافة والتراث الثقافي المادي منه بشكل خاص، ستُحدِث العديد من الإشكالات والتحديات المجتمعية التي يمكن أن تتفاقم إذا لم يتم العمل عليها دراسة وتنفيذا وحماية.

يُحدَثنا تقرير (قاعدة معارف الثقافة/ التراث الثقافي وتغير المناخ. مجموعة من البيانات والوثائق حول الثقافة/ التراث الثقافي وتغير المناخ في السياق الحضري)، الصادر عن وزارة الثقافة الإيطالية، بالتعاون مع مؤسسة التراث الثقافي والأنشطة في إيطاليا، بدعم من جامعة نوتردام، ومجموعة عمل تغير المناخ التابعة لـ (ICOMOS)، أن فهم العلاقة بين التغير المناخي والثقافة لا يتعلق بحماية التراث الثقافي من "الآثار السلبية المدمِّرة الناجمة عن الظروف البيئية المتغيرة، ولكن أيضا بسبب الدور البارز الذي يمكن أن تضطلع به الثقافة والتراث الثقافي في عمليات التكيُّف والتخفيف" من تلك الآثار. لهذا فإن التقرير يركِّز منذ البدء على تقديم فكرة (المدينة) باعتبارها (قطعة أثرية فريدة من صنع الإنسان). إنها نتيجة لإبداعهم، لذلك فهي (تعبير ثقافي)، يجب أن تتم حمايته من التغيرات المناخية.

ومع توقعات العالم في زيادة عدد السكان فإنه من الضروري إضافة إلى تلك الاحتياجات الهندسية والبنية التحتية، فَهم أهمية التدخل في سلوك الناس في المجتمعات، من حيث قدرتهم على المشاركة في التخفيف من آثار التغير المناخي، ومساهمتهم الفاعلة في عمليات التكيف، الأمر الذي يقودنا إلى دور الثقافة والإعلام في بناء تلك المفاهيم وترسيخها للمجتمع؛ فالأمر لا يتعلق بـ (السياسات) وحدها، بقدر تعلقه بالإمكانات التي تقدمها الثقافة والسياقات التي توفرها للمجتمع، ليستطيع بناء مفاهيم حياتية تتناسب مع تلك التغيرات، وتتواءم مع متطلبات التطور المجتمعي، فـ (النمو المستدام) – بتعبير التقرير – (مسألة ثقافية)، تحتاج إلى فهم تلك الإمكانات التي وفرَّها التراث الثقافي لمعنى (المدينة) أو (الحارة)، التي تعكس العادات الاجتماعية والثقافية التي بُنيت على أساس من الاستدامة والاستخدام (المدروس للمواد)، وعكست احتياجات المجتمع المحلي، فكانت قادرة على التكيُّف مع التغيرات المجتمعية، والمتغيرات البيئية، ولذلك أصبحت تراثا ثقافيا له قيمته الحضارية، التي شكَّلت بُعدا محليا للثقافة التي شارك فيها أفراد المجتمع بطريقة نشطة وواعية.

يعتبر تقرير (... الثقافة/ التراث الثقافي وتغير المناخ) أن الابتكار اليوم أصبح (خارج المجتمع)، باعتباره (مسألة تقنية... يُراد منه خلق أسواق جديدة)، ولهذا فإنه – أي التقرير – يدعو إلى حاجة المجتمعات للانتقال (من العالمي إلى المحلي)؛ بحيث يستعيد الناس قدرتهم لبناء مجتمع مرتبط بمناخه، مستعد للتغيير، مُدرك لأهمية دوره في التخفيف من الآثار المناخية، خاصة فئات الشباب – بكافة مراحلها -، والتي تُظهر وعيا متزايدا لقضايا البيئة والتغير المناخي. من هنا يتأسس الوعي بأهمية الشراكة بين قطاع البيئة والثقافة والإعلام باعتبارهم شركاء في تأسيس وعيا مجتمعيا بقضايا المناخ وتغيراته المتسارعة من ناحية، ودور هذه الشراكة في المساهمة في (تحسين سياسات النمو الحضري الثقافي المستدام في المدن) باعتباره (هُوية) من ناحية أخرى.

والحق أن سلطنة عمان اتخذت وما زالت الكثير من الإجراءات والتدابير الخاصة بالتغير المناخي، وتحقيق (الحياد الكربوني بحلول 2050)؛ سواء من خلال عمل المؤسسات المعنية بالمناخ، أو سن اللوائح والتشريعات المناسبة التي تُسهم في الحد أو التخفيف من آثار التغير المناخي، أو العمل على الإحصاءات وقواعد البيانات، وحتى إعداد (الاستراتيجية الوطنية للتخفيف والتكيف مع التغيرات المناخية)، وغيرها من الإجراءات، والمشروعات الوطنية التي جعلت السلطنة في مصاف الدول التي تولي هذا التحدي اهتماما كبيرا، مما يدل على وعي الدولة والحكومة الرشيدة بخطورة التغيرات المناخية الحالية والمستقبلية، وأهمية التخفيف من حدتها حفاظا على التنمية الإنسانية في المجتمع.

والحال أن هذا الاهتمام الكبير من الدولة يجب أن يصاحبه وعيا مجتمعيا للآثار السلبية لهذا التغير المناخي على حياة الناس من ناحية وهُويتهم الثقافية من ناحية أخرى؛ ذلك لأن ما تسببه التغيرات المناخية يؤثر في التنمية الحضرية المستدامة والتي ترتبط بثقافة المجتمع وقدرته على التكيف مع الأنماط البيئية الناتجة عن تلك التغيرات. إن وعي المجتمع يتأسس على تلك الإمكانات التي تسمح بها الدولة لمشاركة قطاع الثقافة والإعلام في الخطط والرؤى التي تقدمها المؤسسات المعنية بالبيئة والمناخ؛ فتلك الخطط لا ينبغي لها أن تتحقق بعيدا عن مشاركة المجتمع، و وعيه بأهمية الحفاظ على البيئة، وقدرته على المشاركة الفاعلة في التخفيف من الآثار السلبية.

إن الشراكة بين الثقافة والتغير المناخي شراكة مستدامة قائمة على تقديم أفضل الممارسات للحفاظ على أنماط الحياة من ناحية، والتراث الثقافي الذي يمثل هُوية المجتمعات من ناحية أخرى. إنها شراكة تقدم نفسها باعتبارها (عاملا تمكينيا ومحركا للتنمية المستدامة)؛ ذلك لأن ثقافة المجتمع تشمل أنماط الحياة الحضرية كلها (التنوع الثقافي، والتنوع البيولوجي، والتنوع الجغرافي، والتنوع الفكري)، ولأنه كذلك فإنه من أهم أنماط الحياة تأثُّرا بالتغير المناخي، وبالتالي ستعتمد استدامة تطوره ونموه بقدرته على الصمود، وفاعليته في المشاركة في التخفيف من حِدة الآثار السلبية، ولعل هذا ما دفع أوروبا لتخصيص احتفالها بـأيام التراث الأوروبي 2022 (EHD) (تراث مستدام)، الذي ينظمه المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية، لمناقشة الإجراءات التي تم اتخاذها لحماية التراث الثقافي في (50) دولة أوروبية موقعة على الاتفاقية الثقافية الأوروبية، في ظل التغير المناخي والتدهور البيئي؛ حيث تم التركيز على (الدور النشط للمجتمعات والتراث في عملية بناء مستقبل أكثر استدامة ومرونة).

إن خطر التغير المناخي يهدد أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ولهذا فإن العالم يدعو إلى تلك الشراكة الفاعلة بين المؤسسات المعنية بالبيئة والمناخ والثقافة والإعلام، باعتبار أن هذا التغير لا يُهدد الحياة المجتمعية الحالية وحسب، بل يؤثر تأثيرا مباشرا على الممارسات الإنمائية لخطط المستقبل، فكلما تشاركنا جميعا في الحد من آثاره والتخفيف منها كان ذلك دعما لمسيرة التطور المجتمعي، وعليه فإن دور الثقافة (مؤسسات وأفراد) هنا دورا أساسيا بدءا من توعية المجتمع بأنماط الكتابة الفكرية المتنوعة، والمساهمة الفاعلة في تطوير أنماط التنوع الثقافي، وابتكار وسائل حديثة للمحافظة على التراث الثقافي، وليس انتهاءً بالمشاركة الفاعلة في الاستثمار المستدام للموارد الثقافية.