ماذا تبقى من صانعة الخيال؟!
تُعد المرأة في المجتمع وعلى وجه التحديد في المجتمعات الريفية والبدوية بمثابة الذاكرة الحية للميثولوجيا والآداب والفنون، فهي التي تغرس في النشء أبجديات الثقافة والتربية، فاللغة الأولى لأي إنسان تُنسب إلى الأم (اللغة الأم) وإن كانت تعني الأولى المُشكلة لوعي الفرد. فالأم أشبه بجسر ثقافي بين الأجيال، فهي صانعة للأدب ومسؤولة عن عمليتي التلقي والعطاء عبر الأدب الشفوي. ولا يقتصر دور المرأة على استمرارية الحياة والتناسل بل يتخطاه إلى الدور الثقافي كما أسلفنا. فالمرأة مستودع الحكايات والروايات وكافة أشكال السرد تنقل ثقافتها الشفوية لأبنائها قبل مرحلة التدوين، لذا لا يقل دورها عن الأستاذة الجامعية التي تحاضر لطلبتها في المدرج الجامعي، سوى أن الأولى تلقي معارفها من واقع التجربة أو كما وصلت إليها من أسلافها، بينما الأستاذة تحصلت على المعارف الأكاديمية من خلال كُتب المطالعة.
أسوق هذه المقدمة للسؤال عن الأثر السردي للمرأة في مجتمعاتنا؟ في ظل تراجع الإنسان الحكاء لصالح الصورة والتكنولوجيا، خاصة بالنسبة للمرأة الراوية والساردة للسير والأحداث، المرأة التي تسهم في تشكيل وعي الطفل في مراحله الأولى، فقبل البحث عن الجواب علينا أن نُبسط معنى لفظتي الساردة والراوية، فالسارد كما يصفه الكاتب المغربي سعيد يقطين «شخص له وجود محدد ونسب معين، مثل الشاعر يمثل صوتا فرديا ينتمي إلى جماعة مبدعة يشترك معها في النهل من المعين الجماعي ويتميز بما يُمكن أن يضيف إليه، أما الراوي والوصف أيضا ليقطين» شخصا واقعيا يروي قصص الأولين، فهو يُمثل الصوت الثقافي الذي يختزن الذاكرة الجماعية.
هذا الموضوع يعنيني بشكل شخصي، إذ نشأتُ في بيئة ريفية متنقلة كانت المرأة هي الراوية للقصص والحكايات، والمُفسرة الأولى لكل تساؤلاتي، فالمحصلة الثقافية الأولية كانت عن طريق الأم التي ساعدتني في تشكيل الوعي وبناء الذاكرة، ويرى هنري أتلان «إن استخدام لغة محكية ثم مكتوبة هو في الواقع توسع هائل لإمكانات التخزين في ذاكرتنا، إذ تتمكن هذه بفضله من تجاوز الحدود الفيزيائية لجسدنا، لتستودع إما لدى آخرين وإما في المكتبات، وهذا يعني أن هناك لغة موجودة كشكل من أشكال تخزين المعلومة في ذاكرتنا، قبل التكلم بها أو كتابتها».
فكانت القصص والأساطير والخرافات والأمثال والمعتقدات تُلقى عليّ وأقراني في العديد من المناسبات الدينية والطقوس والظواهر الفلكية، ولم نكن ندرك غاية تلك الحكايات وأبعادها كانت «تفسيرية لقضايا أو أصل العلم في عصور ما قبل العلم» كما ورد في موسوعة الأساطير العربية. فقصة (العجل بعفيرور) أو قصة استعارة الأفعى لعيون الدودة الأفريقية العملاقة، استهوتنا في مرحلة ما من طفولتنا ثم أصبحت مضرب تندر، ولكن من خلال المطالعة وجدنا تقارب بين خرافاتنا وخرافات الآخر، كأن الميثولوجيا تُقرب البشر أكثر مما تبعدهم الإيديولوجيا.
يتوقف سيل المعارف والخبرات المنقولة من الأم لدى الذكر بعد دخوله لمرحلة المراهقة، إذ يأتي طرف آخر منافس لحكايات الأم والطفولة، وهو عالم الرجال المرتبط بالواقع أكثر من الخيال. بينما تستمر الأنثى في التزود من سرد المرأة وعوالمها وخيالها، إلى أن تنضج فتستلم عملية التلقي وإرسال الثقافة الشفهية مرة أخرى إلى الأبناء والأجيال التي تأتي بعدها.
يطول الحديث عن دور المرأة في الأدب الشفوي ويتشعب، فهل يُمكن تطوير فكرة المرأة الحكواتية وتعميمها على رياض الأطفال لبذر المعارف الأولى في الجيل الذي سيتعرض لهيمنة التكنولوجيا على الأجيال، مهما كانت تطمينات جوناثان غوشل الذي يقول في كتابه: (الحيوان الحكاء، ترجمة بثينة الإبراهيم) لا تقنط لمستقبل القصة، ولا تتحول إلى متذمر من ظهور ألعاب الفيديو أو تلفزيون الواقع. ستتطور الطريقة التي نعيش بها القصة، ثم يضيف «انتبه بشكل أكثر أهمية إلى أن معرفة قوة القص ومصدرها وسبب أهميتها، لا يمكن أن تقلل من عيشك لها، فأذهب وتِه في رواية، وسترى ».
ختاما هل يُمكن إيجاد استراتيجية لإعادة الاعتبار للأدب الشفوي عبر توثيق الحكايات والأساطير وإعادة طرحها بأساليب حديثة، أو إعداد منهج تربوي يُعيد للحكاية دورها التربوي في تشكيل الوعي وصنع الإبداع؟، فنجني بذلك الحفاظ على الذاكرة الشفوية من النسيان، ونخلق وظائف ثقافية للمرأة التي أنثت الرواية والحكاية والأسطورة والقصة.
