الإنسانية وعيٌ خارج المقصلة
يعاني البعض من قسوة فرد ما أو حتى قسوة مجتمع كامل، قسوة تؤثر عليه نفسيا واجتماعيا لا محالة، وقد يُظنُّ أن لهذه القسوة مبرراتها سواء كانت فردية أو مجتمعية حين يجعل الإنسان من نفسه متعهدا بتقييم ثم محاسبة الآخرين على ما يصدر عنهم لفظيا أو سلوكيا.
لكن هذه القسوة تتسع أحيانا لتنسحب على أسباب غريبة فيها من الظلم ما يكفي إذ تحمل أصحابها وزر انتماءاتهم الاجتماعية أو ألوانهم أو أشكالهم أو لمجرد قدر انتمائهم لفئة من الفئات الخاصة، ومن هذه الفئات التي تعاني صامتةً ظلما غير معلن وقسوةً غير مبررة فئةُ الأطفال "مجهولي الأبوين"؛ هذه الفئة التي تأتي إلى الحياة حاملة وزرا لم ترتكبه وبؤسا لم تختره.
بعيدا عما يمكن كتابته حول ما يقدم لهذه الفئة من خدمات مؤسساتية أو تطوعية، أريد لهذه المقالة تناول تحديات هؤلاء في مراحل الحصول على وثائق ثبوتية أولا، ثم في سعيهم المضني للاندماج والتأقلم في مجتمع لا يحنو ولا يسعى لتفهم صراعات وحاجات وآلام هؤلاء المتعبين.
هل اختار أحدهم واقعه الذي يعيش؟ هل يمكن للإنسان أن يولد حاملا وزر غيره متحملا مسؤولية وتبعات هذا الوزر؟ حتى إن كان هذا " الغير" هو والدا أو والدة حملتهما لحظة الخطأ أو لحظات القسوة للتخلي عن صغيرٍ بريء لتسلمه كفيّ واقع مليء بالكثير من الأسئلة والكثير الكثير من المحاكمات العلنية وغير العلنية الجاهزة؛ المحاكمات التي يجد هذا الطفل نفسه في مواجهتها وفي صراع دائم معها، وعليه أن يتأقلم مع تلبس حالة المواجهة الدائمة والتبرير المتصل إما بإعداد النفس بمقاومة داخلية تحمي ذات هذا الطفل من كل سهام الاتهام ونصال اللوم على ما لم يقترف وما لم يفعل أو بانكفاء يسلمه لاكتئاب دائم أو يأس مقيت من الذات والمجتمع.
علينا أن نفكر طويلا وعميقا في إنسانيتنا ونحن نقترف كل هذه القسوة على من لم يقترف ذنبا ولم يستحق عقابا، أن نفكر في إنسانيتنا إن مارسنا تمييزا أو عنصرية بغيضة تجاه هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين نحملهم عبء آباء تخلوا عنهم، ثم عبء مجتمع جهل إنسانيته فرماهم بالقسوة في التمييز كما هي في الإقصاء.
كل ذلك وأكثر مما ينبغي أن يعاد التفكير به حضر هنا بعد أن قضى خمسة شبان من هذه الفئة في حادث سير قدري أثناء رحلة سعى منظموها لإسعادهم والترفيه عنهم علّهم ينسون أسئلتهم الصعبة، أو يتجاوزون واقعهم الأصعب.
قضى خمسة منهم في هذا الحادث ماضين من ضيق الواقع إلى سعة الرحمة، رحمة الله، فيما يعاني أربعة عشر من الفئة ذاتها، وفي الرحلة ذاتها من آلام الأسئلة والمواجهات والحادث والذكريات.
هل سيحرك هذا الحادث وعيا مجتمعيا مطلوبا ومأمولا تجاه هذه الفئة؟ هل سنعيد التفكير في مساحات التكافل الاجتماعي والنفسي الحقيقي بيننا حين لا نضن بالتعاطف ولا نبخل بالفهم بعيدا عن منصات محاكمة الناس ومعاقبتهم على انتماءاتهم و ظروفهم التي لم يختر أي منهم شيئا منها؟
هل ستسلمنا هذه الصرخة وصدمة الموت لمراجعة الخدمات المقدمة لهذه الفئة مؤسساتيا ومجتمعيا وإنسانيا حين نملك الكثير للتقليل من شعورها بالألم وشعورها بالإقصاء وشعورها بعدم الانتماء؟ هل نبلغ كل ذلك لنشعر معا بالأمان النفسي والاجتماعي والانتماء الحقيقي لأرض طيبة ومجتمع إنساني واعٍ يتجاوز التأنيب والتجريم لفضاء الاحتواء و مساحات المشاركة؟
أختم مقالتي مودعة أرواحهم إلى خالقها الرحيم، أودعهم ومازالت تسكنني تساؤلات لمّا ترحل معهم، إذ تبقى مع آخرين يعيشون بيننا ويحملون ذات الأسئلة، وذات الوجع، وذات الرغبة في الشعور بالأمان بعد القلق والخوف، والاحتواء بعد التجني والإقصاء، أختمها يحملني يقين بأن إنسانيتنا أرأف بهؤلاء من أفكار بالية تحمّل الضحية ذنب جلاديها، مؤمنةً بأننا نملكُ الكثير حين نعي أولا ثم حين نشاء.
