ما الذي يبقى من الفرديَّة؟

19 يوليو 2022
19 يوليو 2022

"لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد بأنّ قول الحقيقة سوف يقرّبك من الناس، الناس تحبّ وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام. منذ القدم والبشر لا تعاقب إلاّ من يقول الحقيقة، إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها. الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل".

شكرًا للفيلسوف فريدريك نيتشه على هذه الافتتاحية التي عند تأملها سيرفضها المتزمتون من المؤمنين الحريصين على تكريس مفهوم خطابات تعاكسها: كالقبيلة، أو الأمة، أو يكونوا أحد الذين يؤيدون صراخ النداءات العالية التقليدية: الحشود والجماهير الغفيرة.

ما الذي يبقى من الفرد إن هو ذاب في عقلية القطيع السائب أو القطعان المنضبطة في طابور منتظم خلف أبواق السفسطائيين والدعاة والأكاديميين والمهرجين؟ كيف سيقاس معيار الشخصية المتفرّدة أو العصاميّة أو الجادّة أو الشخصية غير الضائعة التي اختارت أن تغرّد خارج السرب؟ إن التهمة الجاهزة هي واحدة من بضع تُهم مصفوفة في خزانة الأرشيف الأركيولوجي: إما معارض، أو مجنون، أو مرتد، أو كافر، أو ملحد، أو زنديق، أو مشاكس، أو حيوان، أو مأفون، أو خارجيّ، وفي أحسن الأحوال كائن غريب الأطوار!

أن يراك الآخرون مختلفا أو كائنا غريب الأطوار لأنك لا تفكر مثلهم، ولا تلبس مثلهم، ولا تأكل مثلهم، ولا تضحك على نكتهم غير الظريفة مثلهم، ولا تقم بطقوس الحداد مثلهم، ولا ترقص في مناسبة الزواج مثلهم، وليس لديك حسابات افتراضية تترقص في أحدها وتحاضر في الأخرى على شاكلتهم، هذا لأنهم قد سلموا قيادة عقولهم لسلطة تُريحهم من اتخاذ القرار أن يكونوا مختلفين. سلطة لا تدفعهم إلى التمييز بين آراء متباينة حتى نحو تبيّن الفرق ما بين الكرز والتوت! فتشعر للحظة أنك بعيد عما يدركونه في عالمهم، فهل صرتَ كتلة من الوهم أو الخلل أو المرض؟ إن انفصالك الحُّر عنهم، أو ابتعادك الفيزيولوجي منهم، سيجعلهم يعملون على جذبك نحوهم بكل الطرق الخفية أو المعلنة، فلا يُريحهم شيء أكثر من أن تتخلى عن فكرك وإدراكك، ففي اللحظة التي يمتدحون مظاهر الولاء والانتماء للسلطات الكثيرة، لن تكون فرديتك بمأمن أو بمنأى من الإصابة بالأذى، جميع أنواع الأذى ستلاحقك، المعنوي والمادي والاجتماعي.

في اختلافك أو انفصالك أو ابتعادك تشتاقُ إليكَ، وفي اشتياقك الأصيل ستظن في لحظة حلم أو خيال أنك بحريتك وفكرك وحداثة مجتمعك أنك قد قطعت شوطا مع الحداثة، لكنك بعد تأمل لسياقات ما حولك، ستعرف أن حداثتك الظاهرة غير مكتملة، ويبدو حتى أنت كإنسان غير مكتمل! وسيحلو لك أن تجرّ إليك جميع أشكال المتعارضات: القرية والمدينة، أو الحداثة وما بعد الحداثة، الفردية والفردانية، العبودية والحرية. هل ستتوقف عن التأمل؟ لا أظن ذلك، ستظل تقاوم فتتخيل نفسك فوق خشبة المسرح حاملا كالدون كيخوتة عدته، فتتصدى لكائنات خرافية على الخشبة، تقاتلها بأسلحتك الضعيفة وجسدك الذابل، ثم سترى نفسك أمام مرآة طويلة تكشفك أمام نفسك. ستقاوم وستشتاق إلى صوتكَ وبعض لحظات مشرقة من ماضيكَ وأحلامكَ وألفاظك وأريحيتكَ وعفويتكَ. في اختلافك بعد تعرّضك للأذى أو الوجع أو الاتهام، أنت لم تعد كما كنتَ. ثمة خلل قد أصابكَ. ثمة قوى سلبية وغاضبة تزعجك، والنفس العاقلة أُرهقت، والقدرة على التمييز بين الأشياء قُلصت.

الآخرون، يأتون على أشكال وعناصر وأفراد وهيئات متباينة، تارة ينسبوك إلى الأسرة النووية الصغيرة، وتارة يشدونك شدًا إلى الأسرة الممتدة كالعشيرة والقبيلة، حتى تبقى كائنا هشًا مندغما فيهم. يتناقشون حولك وكأنك شيء مهمل، يشككون في قدرتك على أن تكون مستقلا ومكتفيا بذاتك، يؤطرون رغباتك وأهدافك وشؤونك في دوائرهم المعقدة، لا احترام لسماتك الشخصية التي تعتز بها، ولا تقدير حقيقي لطموحك، فلا يرون فيك إلا كائن غريب الأطوار.

فلسفيا، ستتضاءل قيمة مقولة كبير السفسطائيين الفيلسوف برتاغوراس الإغريقي الخالدة: "إن الإنسان مقياس كل شيء"، هذه القاعدة في قاموس الفردية معناها أن التجربة الشخصية هي التي تكوّن الخبرة لاتخاذ الحُكم على الأشياء بالصواب أو بالخطأ، ومع مفهوم العشيرة أو القبيلة أو الجماعة يتلاشى هذا المستوى للتجربة الخاصّة. إن اعتداد الفردية بالتفكير الحرّ والعمل وفقا للقناعات الشخصية المكتسبة عبر تدافع الخبرات في الحياة تذوب في وجود التفكير الجمعي. هذا الكائن الغريب الأطوار المنعزل البعيد عن الاستهلاك الجمعي كالآخرين سيكون قاعدة للاستهزاء به، وفضحه، والسخرية منه، والتخلي عنه.

إن فهم الفرد لفرديته ثم النداء لما هو بعدها يعني أن تكون الفردية قادرة على ربط خطابها وتوجيهه إلى العالم، بحيث يصير الخطاب نصًا مقروءًا لا منطوقا فقط. وهذا يسهم في تقريب أفكار جديدة لمناقشتها. يرى عالم النفس السويسري كارل يونج أن الفردانية خطوات الانتقال من مرحلة اللاوعي إلى مرحلة الوعي عبر مجموع من العمليات الداخلية التي تجعل من المرء أن يكون، ولكي يحصل ذلك التكوّن على المرء أن يظل في اختبارات متلاحقة مع القرارات التي عليه إقرارها.

إذا ما انتقلنا إلى ساحة الإبداع في الكتابة والفن والتمثيل، وأنزلنا الفردية من برجها المرتفع وتشابكنا معها، سنرى بعض المفاهيم التي لا تتصل اتصالا مباشرا بالفردية - الفردانية، لكن يجري استدعاؤها لتقريب وجهة النظر الثقافية للمفهوم، كالشخصية Character، والقناع Mask، والسارد Narrator ولنبدأ من هذا السؤال: هل نقدر أن نعرّف الشخصية دون الاستناد إلى تعريف الفردية؟ وللتضييق على علماء النفس، سنحصر الشخصية في مجال المسرح.

الشخصية المسرحية ليست الفردانية ولا ميزاتها أو خصائصها، إنها مجموعة عوامل مُهيئة لمساعدة الممثل على تأدية الدور. يكتب الكاتب أبعاد شخصياته ثم يأخذ الممثل التماهي مع الشخصيات لكنه يظل في مسافة بعيدة عنها، وقد مرّ تطور الشخصية الدرامية بعدة مراحل وانتقالات من الكلاسيكية إلى الرومنطيقية والرمزية والواقعية وصولا إلى التفكيك. دراميا، الشخصية قد تكون جادة أو عاطفية أو مثالية أو ممتعة أو مثيرة للسخرية، وتُخضع الشخصية لتصنيفات المجال الذي أبدعت فيه: هكذا عُرف الفنانون الكوميديون العظام أمثال: شارلي شابلن، وماري منيب، وعبدالمنعم إبراهيم، وعبدالحسين عبد الرضا، كما عُرف عن بعض الفنانين صرامة وجدية شخصياتهم: محمود المليجي، وسناء جميل، ومحمود مرسي، هؤلاء صاروا نماذج يُقاس عليها خصائص مدارس في فن تعليم تحليل الشخصية.

حتى الإرشادات المسرحية التي تدخل في توجيه عنوان المسرحية لا تلعب دورًا في توضيح مفهوم الفردية، لكنها تنير الضوء للشخصية المسرحية. نرى المؤلف يلحق غلاف كتابه بعد صفحة العنوان بالإهداء يليها صفحة تحذيرية للقراء الفرديين الذين سيقرأون عمله مفادها ألا علاقة مطابقة بين شخصياته المتخيلة والفخائض والعشائر والقبائل التي ينتسبُ إليها اسم المؤلف. قد يعمل المؤلف على رسم ملامح شخصياته وتعريف أبعادها المادية والنفسية والاجتماعية، ربما يَكتب لها أسماء ويرسم لها خطوطا وظلالًا، وقد يُسقطها بجرة قلم من جميع المرجعيات. هكذا تظل الشخصية الفنية مجرد نص ثالث هدفه عقد ميثاق مع القراء والمتفرجين، وبتعبير باتريس بافيس: "إن تسمية الشخصيات أمر حاسم للتعريف عنها وطريقة فهمها من خلال الحبكة، مهما قالت ومهما فعلت. إنها كلمة المؤلف الأولى ولعلّها الأخيرة".

ما الذي يبقى من الفردية وهذه الإنزالات الكريهة، البغيضة، الثقيلة على النفس؟ هل صدقت مقولة نيتشه؟ هل الحل في الهروب؟ أم اللجوء إلى القناع الذي لعب أدوارا متعددة عبر العصور. إنه أشياء كثيرة ومقياس لممارسات عدة: دراما، وأسلوب إخفاء، وسيلة مراقبة، وبتعبير بافيس يعمل القناع على "التحرّر من الهويات والممنوعات، والزمن، والطبقة والجنس"، لهذا يتمتع القناع بالحيادية، فلا يتوجب عليه أن يعبر عن وجه شخصية معروفة أو مجهولة، نشيطة أم خاملة، على القناع البقاء في دائرة الحياد، وأنت أيها الفرد أو الكائن الغريب الأطوار ما الذي قررت؟