الناتج المحلي الإجمالي والتنويع الاقتصادي
كغيري من المهتمين بالاقتصاد والباحثين فيه أجد في الأرقام والإحصاءات ما يثير الفضول والتساؤل ويغري بالبحث والتحليل. وهدفي من وراء ما أكتب هنا إبداء الرأي أو طرح تساؤلات حول بعض القضايا التنموية. كما أهدف من ذلك أيضًا إلى نشر المعرفة والثقافة الاقتصادية بين الناس، والحث على مزيد من التحليل والبحث في بعض الموضوعات الاقتصادية.
تحدثت في مقالات سابقة نشرتها لي جريدة عمان عن أهمية الأرقام والإحصاءات التي يصدرها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، وتناولت بعضها بالتحليل المبسط بما يناسب النشر في الصحف ويجد صداه لدى قرائها من المختصين أو من المتخصصين أو من غيرهم. ومن بين ما اطلعت عليه مؤخرا من أرقام وإحصاءات هي تلك التي تضمنتها النشرة الشهرية للمركز المذكور، وهي نشرة شهر مايو الماضي. لن أتطرق هنا إلى كل الإحصاءات التي احتوتها النشرة، لكني سأقتصر على الأرقام المتعلقة بالناتج المحلي الإجمالي، والتغير الذي حدث في نسبة مساهمة قطاع النفط والغاز والقطاعات الأخرى في إجمالي الناتج المحلي، وكذلك التغير في نسبة الباحثين عن عمل، كل ذلك لفترة الربع الأول من العام الجاري .
أظهرت النشرة المذكورة أن الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفع خلال الربع الأول من العام الحالي بنسبة تزيد قليلا عن 16%. كما أظهرت أن مساهمة قطاع النفط والغاز في الناتج المحلي الإجمالي قد زادت بنسبة 12.5% فيما انخفضت نسبة مساهمة القطاعات الأخرى فيه بنسبة تجاوزت 4%. وقد رافق الارتفاع في نسبة مساهمة قطاع النفط والغاز في الناتج المحلي الإجمالي زيادة كبيرة في إيرادات الميزانية العامة للعام الحالي، وذلك أمر معروف ومفهوم في اقتصاد لا يزال قطاع النفط هو القطاع المسيطر فيه، لكن الملفت هو انخفاض نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية في مجموع الناتج المحلي!
لا شك أن زيادة إيرادات الميزانية العامة لها عدة إيجابيات، من أهمها تخفيض العجز في الميزانية، وكذلك تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما أدى إلى تحسن في وضع عدد من المؤشرات الاقتصادية والتنموية، ومنها مثلا تحسن مستوى التصنيف الائتماني للاقتصاد، الأمر الذي يعني أيضا تحسنًا في مناخ الاستثمار وتحسن فرص استقطاب رؤوس الأموال من الخارج. كما أن زيادة الناتج المحلي الإجمالي يكون لها في الغالب أثر إيجابي على خلق فرص العمل في القطاعين الحكومي والخاص. ولذلك أظهرت الإحصاءات التي تضمنتها النشرة الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات انخفاض معدل الباحثين عن عمل في شهر مايو الماضي بنسبة زادت على 4.5%.
بالرغم من التحسن الملحوظ في معدل الناتج المحلي الإجمالي و زيادة إيرادات الميزانية العامة وانخفاض نسبة الباحثين عن عمل فإن النشرة المذكورة أظهرت -كما أشرنا أعلاه- انخفاضًا في نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من العام الجاري. ذلك الانخفاض أمر جدير بالملاحظة والاهتمام، لما له من علاقة بالجهود المبذولة لتقليل درجة اعتماد الاقتصاد على قطاع النفط. ومن المعروف أن التنويع الاقتصادي هو أحد أهم أهداف السياسات الاقتصادية والخطط التنموية في عمان. وعلى مدى العقود الخمسة الماضية أولت جميع الخطط الخمسية أهمية كبيرة لتنمية القطاعات غير النفطية والنهوض بها، من أجل خلق اقتصاد متعدد الموارد والتقليل من اعتماده المفرط على قطاع واحد، هو قطاع النفط والغاز. لذلك فإن انخفاض نسبة مساهمة تلك القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي أمر يستحق الوقوف عنده لمعرفة أسبابه. ورغم ما يقال عن الآثار السلبية لهيمنة قطاع النفط والموارد الطبيعية عامة على اقتصادات الدول، ومنها ظهور الاقتصاد الريعي على حساب الاقتصاد الإنتاجي، وانتشار ما يسمى المرض أو الحمى الهولندية Dutch Disease إلا أن بعض الدراسات تقول إن قطاع النفط والغاز قد يكون له أثر القاطرة locomotive effect على القطاعات الأخرى. أي أن نمو قطاع النفط يمكن أن يجر معه القطاعات غير النفطية إلى النمو أيضًا لما لقطاع النفط من ترابطات مع القطاعات الأخرى، خاصة إذا ما تم توجيه الشركات العاملة هناك أو إلزامها باستخدام الموارد المحلية و الشراء من السوق المحلي لسد الكثير من احتياجات قطاع النفط والغاز، وذلك من خلال زيادة ما يعرف بالقيمة المحلية in-country-valua في مصروفاتها الاستثمارية والاستهلاكية.
لا يهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة شاملة تعطي رأيًا جازمًا بأسباب التراجع في نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية التي ظهرت خلال الربع الأول من هذا العام، لأن ذلك يحتاج إلى دراسة أعمق وأوسع لجوانب الموضوع، وإنما الهدف هنا، كما قلنا سابقًا هو إذكاء جهود البحث والتحليل في الموضوع. وللوصول إلى نتيجة حاسمة حوله يجب أولا دراسة فترة أطول من الفترة الواردة في النشرة، وهي الربع الأول من السنة الحالية، كما يجب أن تشمل الدراسة عددًا من المؤشرات والإحصاءات، لمعرفة ما إذا كان التراجع في نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي هو مجرد ظاهرة phenomena عابرة سببتها ظروف معينة، مثل التراجع الذي شهده الاقتصاد العالمي بسبب وباء كوفيد-19 والتضخم الحالي في الأسعار بسبب الحرب في أوكرانيا، أم أنه اتجاه trend مستمر منذ فترة أطول. كذلك يجب معرفة ما إذا كان هناك قطاعات مهمة تراجع نموها، مثل الصناعة أو السياحة والقطاعات التي يستثمر فيها القطاع الخاص، أم أن التراجع كان في قطاعات الخدمات التي تقدمها الحكومة مثل الصحة والتعليم وغيرها. كما يجب أن تشمل الدراسة الوزن النسبي لمساهمة كل قطاع من القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي. كذلك يجب معرفة ما إذا كان التراجع في نسبة مساهمة القطاعات غير النفطية قد أثر سلبًا على الصادرات غير النفطية، وأنواع الصادرات التي قد تكون تأثرت سلبًا بذلك التراجع ومدى تأثير ذلك كله على ميزان الحساب الجاري.
دراسات مثل هذه ستكون مفيدة، سواء أكانت دراسات أكاديمية صرفة، أم دراسات تطبيقية تهدف إلى الخروج بتوصيات يستفاد منها في صياغة سياسات عامة تخدم النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة.
د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية.
