الأمن الغذائي الصحي ثقافة

16 يوليو 2022
16 يوليو 2022

جاء في التقرير العالمي عن أزمات الغذاء 2022(GRFC) (التحليل المشترك لاتخاذ قرارات أفضل)، الصادر عن الشبكة العالمية ضد أزمة الغذاء، بالشراكة مع شبكة معلومات الأمن الغذائي، أن الحرب في أوكرانيا أدت وستؤدي إلى «تفاقم أزمة ثلاثية الأبعاد (الغذاء والطاقة والتمويل)، مع آثار مدمرة على الأشخاص والبلدان والاقتصادات الأكثر ضعفا في العالم »؛ فبعد تداعيات جائحة كورونا (كوفيد 19) الذي ما زال العالم يرزح تحت وطأته وتحدياته الاجتماعية والاقتصادية، فإن هناك تحديات قادمة ستواجهها البلدان إذا لم تكن مستعدة.

يكشف التقرير أن « ما يقرب من 193 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ويحتاجون إلى مساعدة عاجلة عبر 53 دولة/إقليم... أي بزيادة قدرها 40 مليون شخص مقارنة بأعلى مستوى سابق تم الوصول إليه في العام 2020 »، ويعزي التقرير هذه الزيادة إلى تضاعف أعداد السكَّان في السنتين الأخيرتين، إضافة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية التي سببتها الجائحة، غير أن التقرير يتنبأ بتفاقم الأزمة الغذائية؛ نتيجة لحرب أوكرانيا وتداعياتها على أسعار المواد الغذائية وإمدادات الطاقة، والأسمدة، الأمر الذي يتطلب (التعبئة العاجلة) لتجاوز الأزمة أو التخفيف منها، خاصة على بعض البلدان التي تعاني أزمة حادة في الأمن الغذائي.

وتحت عنوان (نظرة قاتمة لعام 2022) يستعرض التقرير مجموعة من الدول التي تعاني من أزمة حادة في الأمن الغذائي التي سوف تتفاقم أزمتها خلال هذا العام وما بعده إذا لم تستطع تجاوز المرحلة الحالية، فبينما يدعو المجتمع العالمي إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للتخفيف من حدة الأزمة، يفشل التمويل الإنساني والإنمائي العالمي للأزمات الغذائية في تلبية الاحتياجات المتزايدة؛ فـ « في حين أن تمويل المساعدات الغذائية الإنسانية آخذ في الانخفاض منذ العام 2017، فإن النقص الحالي صارخ بشكل خاص بسبب التباطؤ الاقتصادي الناجم عن كوفيد 19، وإعطاء الأولوية لاستجابة الصحة العامة للوباء » - حسب التقرير -.

ولهذا فإن التقرير يدعو المجتمع الدولي صراحة إلى «حشد الاستثمارات والإرادة السياسية اللازمة للتصدي بشكل جماعي لأسباب وعواقب الأزمات الغذائية المتصاعدة عبر المنظورات الإنسانية والإنمائية والدعوة إلى السلام »، فالأمن الغذائي أحد أهم مقومات الحياة الكريمة والمساواة بين الناس، وبالتالي فهو مؤشر أساسي للصحة والاستقرار الاجتماعي والرفاه. لذا فإن الأمن الغذائي لا يتعلق بإنتاج الغذاء وحسب، بل إلى «تعزيز الاستيعاب السياسي والتنسيق بين القطاعات لمعالجة الدوافع الأساسية المتعددة الأبعاد للأزمات الغذائية، بما في ذلك عوامل الأخطار البيئية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية» - بتعبير التقرير-.

والحق أن سلطنة عُمان من بين أبرز الدول ممن جعلت الأمن الغذائي غاية وهدفًا تنمويًا أساسيًا منذ بداية النهضة الحديثة وحتى اليوم؛ حيث نشهد مضاعفة الاهتمام بالقطاعات التنموية المرتبطة بالغذاء والتغذية، بُغية تحقيق مستويات أعلى في الأمن الغذائي، والاعتماد على الذات في الإنتاج، سواء على مستويات الزراعة أو الصيد أو المنتجات الغذائية الأخرى، ولهذا فإن عُمان تأتي في مرتبة متقدمة في مؤشر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)؛ حيث جاءت في المركز (29) على مستوى العالم، وهي من بين الدول العربية (الأكثر أمنًا غذائيًا) حسب مؤشر الأمن الغذائي لعام 2021. فما تقوم به الدولة من إجراءات في تعزيز ما يُسمى بالاقتصاد الأخضر والاقتصاد الأزرق، وما تقدمه من دعم وتسهيلات وإعفاءات ضريبية على المواد الغذائية خاصة الأساسية منها، يكشف عن وعي الحكومة الرشيدة بأهمية الأمن الغذائي على المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأفراد، وبالتالي أهمية تعزيز المساواة المجتمعية على مستوى الغذاء.

إن الأمن الغذائي وما يرتبط به من أنماط غذائية، يعكس فكر المجتمعات ومستوياتها الثقافية والحضارية، فكل ما يتعلق بالغذاء (مأكلًا ومشربًا)، وما يرتبط بأساليب تقديمه وطرق تناوله، يندرج ضمن هذا الأفق الثقافي. وقد ارتبطت الأنماط الزراعية وأساليب الصيد، وطرائق إعداد الأطعمة بمجموعة من الأنساق الثقافية والاجتماعية توارثتها الأمم، وكانت ولا زالت تمثل عنصرًا مهمًا من عناصر هُويتها وانتمائتها، ولهذا فإن اهتمام عُمان بهذه الأنماط وتلك الأساليب والطرائق ينبع من تأصيل ثقافي وحضاري، جعلها متميزة على مستوى المنطقة والعالم، الأمر الذي جعل الثقافة العمانية ذات خصوصية فريدة.

ولقد تميزت سلطنة عُمان بإنتاجاتها الزراعية التي كانت تمثل أمنا غذائيا وفيرا، إضافة إلى ما تمثله الثروة الحيوانية والصيد من وفرة، جعلت عمان في مقدمة الدول المنتجة للأغذية. والحال أنه مع هذه الوفرة إلاَّ أن الاستثمار فيها لم يشهد نموًا متزايدًا سوى في السنوات القليلة الماضية، فكم هو معدَّل إنتاج الدولة من التمور على سبيل المثال، في حين أن المستهلك لا يجده في الأسواق والمحلات الكبرى، وإن وجده ففي صورة لا تليق بهذا المنتج الوطني الأصيل. إلاَّ أن الدعم والتسهيلات التي تقدمها الدولة اليوم والتشجيع دفع العديد من الشباب إلى الاستثمار في هذه المجالات بتنوعها، للمساهمة في دعم هذا القطاع المهم، إضافة إلى استثمارات الدولة التي فتحت آفاقًا جديدة أمام الشباب؛ للاستفادة من التقنيات الحديثة لابتكار أدوات وأنماط جديدة في هذا المجال.

يخبرنا تقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم عام 2022 (إعادة توجيه السياسات الغذائية والزراعية لزيادة القدرة على تحمُّل كلفة الأنماط الغذائية الصحية)، الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة، بالشراكة مع مجموعة من المنظمات من بينها منظمة الصحة العالمية، أن توفير الأمن الغذائي وحده لا يكفي؛ حيث كشفت جائحة كورونا (كوفيد 19) أن الأنماط الغذائية الخاصة بالأفراد تؤثر بشكل مباشر في التصدي لهذا المرض، ومع تزايد التحديات البيئية في المستقبل، فإن توجيه الدعم العام الحالي للأغذية والزراعة وتوفيرها لن يكون كافيًا لوحده، بل يجب «الترويج لبيئات أغذية صحية وتمكين المستهلكين من اختيار أنماط غذائية صحية من خلال استكمال سياسات النظم الزراعية والغذائية» - حسب التقرير-.

وبحسب التقرير فإن تأثيرات التضخم المتزايد في أسعار الأغذية للمستهلك الناتجة عن الآثار الاقتصادية للجائحة، والتدابير التي اتخذتها الدول لاحتوائها، أدت إلى « زيادة كلفة النمط الغذائي الصحي »، مما أدى إلى تفاقم عدم القدرة على تحمل تكلفتها في جميع أنحاء العالم؛ حيث لم يتمكن نحو 3.1 مليار شخص من تحمل كلفة نمط غذائي صحي في عام 2020، بزيادة قدرها 112 مليون شخص مقارنة بالعام 2019، وتعود هذه الزيادة إلى آسيا التي بلغ فيها عدد غير القادرين على تحمل كلفة نمط غذائي صحي 78 مليون شخص، وتليها أفريقيا 25 مليون شخص، بينما بلغت الزيادة في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وأمريكا الشمالية وأوروبا 8 ملايين، ومليون شخص على التوالي.

إن مفاهيم الأمن الغذائي اليوم تتخذ معايير إضافية، وتُكشف عن أهمية دعم سياسات الأغذية والزراعة التي تؤثر تأثيرا مباشرا على المستوى الصحي للأفراد، وبالتالي اتخاذ خيارات تُسهم في تحسين القدرة على تحُّمل كلفة الأنماط الغذائية الصحية، والدعوة إلى تعزيز الزراعة المستدامة والنظم الغذائية الصحية وزيادة الاستثمارات الاستراتيجية في مجالات الأمن الغذائي والتغذية الصحية، وتحسين الاتساق بين الإجراءات والأهداف الإنمائية من ناحية، والقدرة على الصمود أمام الأزمات والصدمات، وتعزيز الاعتماد على الذات على المدى الطويل من ناحية أخرى.

وإذا كان مفهوم الأمن الغذائي مرتبط بالفكر الحضاري والتنموي للمجتمع، فإن مسؤوليته لا تقع على الحكومة وحدها، فكلنا مسؤولون عن سلوكنا الغذائي، وقدرتنا على تأسيس أنماط غذائية صحية، إضافة إلى قدرتنا على المساهمة في توفير الأغذية المناسبة لبيئتنا على المستوى الفردي أو الجماعي، إضافة إلى قدرة المستثمرين على تأسيس الشركات التي توفر المنتج العماني وتقدمه بمستوى يليق به. ولنتذكر دوما أن الغذاء الصحي جزء من ثقافتنا العمانية الأصيلة، وأن الأنماط الغذائية ترتبط بمفاهيمنا الحضارية والبيئية.