طواحينُ الهواء وسيوفٌ رقميّة
المؤمل في النقد أن يكون إيجابيًا ساعيًا لتغيير تحسينيّ وتطوير نوعيّ، أما حين تكون الغاية هدم المنقود وتقويضه فإن ذلك لا يمكن أن يُسمى نقدا، ويمكن له تلبس أسماء ومصطلحات أخرى متضمنة الهجوم والعداء والتقويض وغيرها.
الحديث هنا عن" لوبيات"التواصل الاجتماعي الموجهة تجاه فرد أو مجموعة أفراد بغية إقصاء فكرة ما، أو التنفير من سلوك معين، والتساؤل هنا: ترى هل تشفع هذه الغاية إن كانت نبيلة في استخدام مختلف أشكال الهجوم عبر منصات التواصل الاجتماعي من تحريض للرأي العام عبر طرق مختلفة بتوظيف الدين والعادات والتقاليد، وتجييش لمكونات العالم الرقمي سعيا لإثبات فكرة (قد تكون صائبة) أو تنفيرا من سلوك (قد يكون خاطئا)؟!
لن أشير هنا إلى مثال بعينه، لأن الأمثلة أكثر من أن تُحصى، ولا يكاد يمرُّ أسبوع إلا ونتابع مثل هذه الزوابع الرقمية التي تتلبس النقدَ وهو منها براء.
في فضاء العالم الرقمي الرحب يمكن لطفل أو مراهق أن يسجل مقطعا به من الخطأ ما به، أو حتى أن يرسل صرخة تصل إليك طلبا للنجدة أو صدمة تبلغك لتربك هدوءك أو تقلق يومياتك، يتابعها ويشاهدها ويرصدها ملايين الأشخاص عبر شبكات التواصل الاجتماعي معك.
يمكن لردة الفعل حينها أن تتباين بين متفهم عاقل يدرس أحرفه قبل كتابتها في تغريدة أو بريد رقمي، وأهوج متعصِّب يلقي كل أسلحته اللفظية الممكنة سعيا لفوز بسبق تأييد جماهيريّ أو إعجابات رقمية تُضاعفُ رصيدَه الافتراضي المتخيل ربما لتحقيق مكسب مادي لاحقا. نعم يمكن لردة الفعل الأولى أن تحتوي هذا الطفل أو المراهق أو حتى البالغ وتعيد توجيه سلوكه عبر نصحه وإرشاده وتأكيد تفهم منطلقاته ومناقشة مخاوفه، ثم إشراكه في وضع حل يتشاركه وإياه الملايين حول العالم، وهذا هو مبلغ الانفتاح الحقيقي وبغية التواصل المؤملة.
كما يمكن لردة فعل أخرى أن تكون عاتية مدمرة يسعى أصحابها للنيل من شخص الفاعل أو المتحدث، وتشويه سمعته وإفقاده كل مصداقيته في لحظة، بل وحشد الناس ضده طوال ساعات أو حتى أيام سعيا لمجد رقمي وانتصار لحظي، ليُشارَ بعدها للمنتصر الافتراضي بالبنان وتبلغ شهرته عنان الفضاءات الرقمية في حين يُغيَّب"المخطئ" بعد إقصائه وتهميشه ورميه بكل لفظ شنيع ووصف مريع.
ولو أن الأمر يقف هنا لكان به من فشل تفعيل الوسائط الحديثة لخدمة الإنسان ما كفاهُ وأتمَّه، لكن الأمر يتجاوز ذلك إلى إمكانية وصول أثره إلى تمرد هذا الطفل أو المراهق أو المخطئ من البالغين على قسوة وتطرف المجتمع في النصح أولا ثم إلى انقلابه حتى على الثوابت التي آمن بها وصدقها قولا وفعلا بعد ذلك، ليبدأ بعدها تيارا معاكسا في حشد المتمردين وضحايا التنمر الرقمي لتشكيل جيوش مضادة لكل الثوابت الدينية والقيم الاجتماعية عملا بمبدأ الانتقام وفوز الأكثرية.
لابد من اختلاف فكري فاعل ليتشكلَ وعيُ الأفراد وتتكاملَ المجتمعات، ولابد من تدافع طبيعي للأفكار في دحضِ الرأي بالرأي، والحجةِ بمثلها، والموقف وتعارض الرأي بالبيان، لكن أن تتحول مساحات التواصل الاجتماعي إلى ساحات قتال لفظي وتجريح معنوي، وإبادة ذوات متحققة أو غير متحققة فكريا واجتماعيا لمجرد شهرة جوفٍ مهمشين، أو نشوة زيادة متابعين دون رعاية قيمية أو عناية إنسانية فذلك مما لا يمكن وضعه في سلّة النقد أو أن توصيفه ولا حتى في سياق الاختلاف حين تعريفه.
ثمة خلل في قياس مؤشرات القبول والرفض في فضاءات التفاعل الرقمي من قبل أغلب مرتادي هذا العالم، والمؤمل أن لا يفضي ذلك الخلل إلى انسياق شرائح نظن بها الوعي ونأمل بها الخير بعيدا عن التأثير، قريبا من التأثر السلبي بتيار التفاعل الكمّي على حساب التجويد النوعي في محتوى المنصات الرقمية السائدة. الاختلاف ليس مبارزة عضلية والحوار متضمنا حسن النية ليس ضعفا ومنقصة، وما زلنا نعوّل على الرفق واللين في توجيه النقد سعيا للتكاملِ قبلَ التفرّد والاحتواءِ قبلَ الإقصاء.
