ما الذي يحتاجه الابتكار في مجال التكنولوجيا الحيوية؟

04 يونيو 2022
04 يونيو 2022

- فيليب أ. شارب

- جوليان باتريس

لقد أعادت جائحة كوفيد-19 تشكيل الاتجاهات المتعلقة بالصحة العامة والسياسة المالية ودور الدولة في الاقتصاد. لقد أدت المطالبات بالمزيد من المرونة والصلابة فيما يتعلق بسلسلة التوريد والاستقلالية الاستراتيجية في تطوير الأدوية وإنتاجها إلى ظهور مفهوم "سيادة علوم الحياة".

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن على سبيل المثال خطة طموحة تدعو فرنسا إلى إنتاج ما لا يقل عن 20 علاج حيوي بحلول سنة 2030، ومع وجود تمويل من بنك الاستثمار العام الفرنسي فإن مبادرة حكومته " لافرينش كير " تهدف إلى دعم قطاع التكنولوجيا الحيوية المحلي وجعل فرنسا دولة رائدة في مجال الحمض النووي الريبي المرسال وبالمثل فإن حكومات عديدة أخرى- وذلك من هولندا إلى المملكة المتحدة - تضاعف جهودها فيما يتعلق بقطاعات التكنولوجيا الحيوية فيها.

إن هذا الاهتمام هو موضع ترحيب ولكن هل سيكون كافٍ؟ وكما أظهرت تجربة كوفيد فإن تأمين الموافقات لعدد قليل من اللقاحات والأدوية يتطلب المئات من التجارب السريرية لمركبات قديمة وجديدة علماً أن العديد منها قد فشل. إن الابتكار الطبي مكلف والتكاليف والمخاطر المرتبطة به عادة ما يتم إساءة فهمها من قبل صناع السياسات والمواطنين العاديين على حد سواء.

لو تأملنا في موضوع علاجات تداخل الحمض النووي الريبي، وهي فئة جديدة من الأدوية تستهدف الأسباب الجينية للمرض وتستخدم الحمض النووي الريبي المتداخل الصغير (سيرنا) "لإيقاف" البروتينات الضارة من مصدرها لوجدنا أن تلك العلاجات لديها إمكانيات غير محدودة تقريبًا لكن الرحلة من الإمكانية العلمية إلى الفرصة الحقيقية للمرضى كانت طويلة جدا. لقد أطلق اكتشاف تركيبة ووظيفة الحمض النووي في خمسينيات القرن الماضي جهوداً بحثية مستدامة لفهم الآليات الحيوية التي تعكس عملية التعبير الجيني.

لقد بنى اندرو فاير وكريغ ميلو على تلك الاختراقات عندما اكتشفا تداخل الحمض النووي الريبي أو " إسكات الجينات " سنة 1998 والتي بسببها حصلوا على جائزة نوبل سنة 2006. لقد نتج عن اكتشاف فاير وميلو اهتمام واسع باحتمالية استخدام الحمض النووي الريبي المتداخل الصغير كنوع جديد من العلاجات. لقد استثمرت شركات الأدوية بشكل مكثف في هذا المجال الجديد من الأبحاث ولكنها سرعان ما واجهت تحديات تقنية في تحويل تقنية الحمض النووي الريبي المتداخل إلى علاجات. لقد كانت أحد أبرز المشاكل هو كيفية إيصال الحمض النووي الريبي المتداخل الصغير إلى المكان الصحيح من الجسم البشري وذلك حتى يعمل بشكل فعال (أي العضو البشري الذي تم فيه اكتشاف الجين). لقد أدت الصعوبات المتعلقة بهذا المجال غير المعروف إلى فقدان الأمل لدى العديد من الباحثين والشركات.

وبحلول بداية العقد الماضي، قامت معظم شركات الأدوية بإنهاء استثماراتها في التقنية برمتها وفقط بضع شركات - بما في ذلك شركتنا النيلام- حافظت على التزامها وفي نهاية المطاف تم حل مشكلة التوصيل من خلال الجسيمات النانوية الدهنية والتي تحمل الحمض النووي الريبي المتداخل. يوجد حاليا أربعة علاجات باستخدام الحمض النووي الريبي المتداخل تم اعتمادها من قبل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية ووكالة الأدوية الأوروبية كما يتم استخدام الجسيمات النانوية الدهنية في لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال لكوفيد-19. لكن من المهم أن نتذكر أن شركة النيلام استغرقت 20 عامًا وحوالي 7.5 مليار دولار للوصول إلى هذه النقطة.

إن قصة الحمض النووي الريبي المتداخل تعطينا دروساً مهمة عن "سيادة علوم الحياة". أولاً، النجاح يحتاج إلى ما هو أكثر من الامتياز العلمي والدعم الشعبي. إن بوسطن الكبرى اليوم هي مركز على طراز عالمي للتكنولوجيا الحيوية حيث تضم أكثر من 1000 شركة مختصة بالتكنولوجيا الحيوية ولكن بناء ذلك القطاع استغرق 50 سنة وذلك منذ تأسيس شركة بايوجين سنة 1970. يعود الفضل لنمو قطاع التكنولوجيا الحيوية في بوسطن إلى عدة عوامل متداخلة. من المؤكد أن وجود خبرة طبية حيوية على مستوى عالمي داخل جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كان من العوامل المساعدة ولكن توفر المهارات متعددة التخصصات مثل الهندسة وإدارة الأعمال والتمويل والحوسبة وعلوم البيانات كان أمرًا ضروريًا أيضًا، بالإضافة إلى قرب هذا القطاع الواعد من بعض أكبر مستشفيات الأبحاث في العالم. لقد كان الجمع بين القطاعات العلمية والطبية أمرًا بالغ الأهمية للتطور السريري، وأخيرًا، قدم أوائل الرأسماليين والمستثمرين في بوسطن ونيويورك التمويل اللازم.

إن الدرس الثاني يتعلق "بالسيادة" وهو مفهوم يمكن أن ينطوي على المشاكل لأنه يوحي بتوجه على المستوى الوطني فقط ولكن في واقع الأمر حتى ينجح أي قطاع قائم على علوم الحياة، يجب عليه أن يكون ذا توجه عالمي ومفتوح وذلك حتى يستفيد من المعرفة والمهارة العلمية ورأس المال من جميع أرجاء العالم ولهذا السبب نجد أن العديد من أكبر شركات الأدوية الأوروبية واليابانية -سانوفي، نوفارتيس،تاكيدا ،ابسين- تستثمر في منشآت موجودة في بوسطن.

لمساعدة الشركات المحلية على النمو دوليًا، تحتاج الحكومات إلى التحقق من أن سياساتها مواتية لجذب رأس المال البشري والمالي من الخارج. يبدو أن المملكة المتحدة تدرك ذلك فمن خلال قاعدة البيانات ومورد الأبحاث الطبية الحيوية الواسعة النطاق لديها "البنك الحيوي "، فهي تستفيد من بيانات جهاز الخدمة الصحية الوطنية لبناء شراكات مع الشركات والباحثين على مستوى العالم مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تطوير أدوية جديدة.

ثالثاً، يتطلب الابتكار الطبي تمويل ضخم من القطاعين العام والخاص وهنا ما تزال أوروبا متأخرة مقارنة بالولايات المتحدة. ستكون هناك حاجة إلى تمويل أكثر بكثير حتى تتمكن أوروبا من اللحاق بالركب ـ وربما الأهم من ذلك ـ حتى لا تتفوق عليها الصين في سباق التكنولوجيا الحيوية العالمي.

أخيرًا، لضمان الاستدامة المالية والدورة المستمرة للاستثمار، يجب مواءمة حوافز السوق والسياسات لمكافأة الابتكار، وهنا أيضًا أوروبا متأخرة جدًا عن الولايات المتحدة. نظرًا لأن السوق الأوروبية مجزأة بشكل كبير، فإن الوصول إلى الابتكارات يستغرق وقتًا أطول بكثير، مما يؤدي إلى انخفاض عوائد الاستثمار. إن فرص النمو المحدودة والمخاطر التجارية المرتبطة بالوصول غير الملائم للسوق تعني أن هناك العديد من العوامل المثبطة للاستثمار في القدرات البحثية والتجارب السريرية. إن سوقا أوروبيا موحّدا بشكل أكبر يتم فيه تقييم الابتكارات الجديدة في الوقت المناسب وبطريقة موثوقة يمكن أن يصلح هذه المشاكل ويخلق الظروف الملائمة للاستثمار والنمو، لكن سيتطلب ذلك تغييرا في طريقة التفكير.

يحتاج صانعو القرار إلى البدء في النظر لابتكارات علوم الحياة كاستثمار استراتيجي وليس كتكلفة للرعاية الصحية. يحتاج صناع القرار أيضًا إلى تحسين الوصول إلى الابتكارات الجديدة كما فعل جهاز الخدمة الصحية الوطنية البريطاني من خلال مبادرة إدارة صحة السكان وذلك باستخدام التاريخ الطبي للمرضى لتوفير الوصول المبكر والواسع لعلاجات جديدة.

توجد العديد من الحلول المبتكرة الأخرى، لكن دعمها حتى تصل لمرحلة الاعتماد والاستخدام سيتطلب المزيد من الحوار وميثاق اجتماعي جديد بين قطاع التكنولوجيا الحيوية وصناع السياسات وعامة الناس.

فيليب أ. شارب أستاذ علم الأحياء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

جوليان باتريس رئيس السياسات للأسواق الدولية والمدير القطري لبلجيكا ولوكسمبورج في (النيلام للأدوية) Alnylam Pharmaceuticals