"باص وردي يبيع آيسكريم"
للمدن ذاكرة ورائحة كما للكلمات. لا تفقدُ المدنُ حلاوتها أو طلاوتها أو سحر جمالها مع مرور السنين، إلا إذا تم تجاهل قاعها وتراثها الثقافي والفني، أو جرى التغافل عن تقدير الكيفية التي استطاعت بواسطتها استقبال الحيوات الجديدة ذات الألسن المختلفة، سواء كانت تلك الحيوات طارئة فيها، أو مهاجرة أو قادمة إليها، وإدماجها في المجتمع، بالإضافة إلى قدرتها على إنتاج الأفكار المتجددة، وقبول الآخر دون محاولات التنّكر أو رفض كلّ فكرة قد ترى فيها اختلافا عن موروثها العتيد.
لقد أثبت التاريخ والتنافس الحضاري القائم على ابتكار الأفكار والحوار واستقبال الجديد المُجدد لأساليب الحياة المجتمعية، أن العواصم الكبرى تبقى حضارتها ممتدة بفعل تراكم الخبرات واحترام الكفاءات وتقديرها، ولا وجود لحضارة تنهض بواسطة القوة وتقدر على البقاء والاستمرار إن ظلت تهتم بحيازة المراكز المتقدمة في سباق التسلّح والهروب القسري للبشر منها، إن حضارة قامت على القوة سيكون مصيرها الزوال، لكن الجهد الحضاري البشري المستند إلى الاستئناس بالعقول والاستنارة بالعلم وسمو الأخلاق هو القادر على تأثيث الحياة الكريمة للبشرية.
في إحدى زياراتي لمدينة صلالة التي وُلدتُ ونموتُ وترعرعتُ فيها خالجتني هذه الأسئلة: هل أستطيع العودة مرة أخرى للحياة فيها؟ هل أقدر على التصالح معها حول فكرة المعيشة؟ والأهم من ذلك هل أريد العودة حقا، وأنا المسكونة بالوَحدة والسفر والترحال؟ كانت المقدمة السابقة التي سبقت هذه الفقرة مجموعة الأفكار التي دارت في خاطري وطائرة السلام تهبط إلى مدرج مطار صلالة بهدوء.
لم أقف كثيرا لأحاول إجابة تلك الأسئلة أو مناقشة الأفكار وأنا أنتظر حقائبي. لكنني قررت أن أمنح نفسي الفرصة لأتجول كسائحة قَدَمت إلى صلالة في إجازة مؤقتة، وأرادت أن تحظى فيها بطيب الإقامة بين أهلها ومحبيها ومعارفها. كان أول ما استوقفني بعد خروجي من المطار، الوباء كوفيد 19 والاشتقاقات التي تطورت عنه؛ بمسمياته ولقاحاته! فعدتُ بذاكرتي إلى فترة إصابتي بكورونا. كنت مسافرة في حينها من صلالة إلى مسقط، وكتب الله فرصة جديدة لأرجع إلى صلالة بعد تلك الإصابة مرات ثلاث على أوقات متباينة، وأذكر لسان حال الأصدقاء وهم يقدمون لي النصح هذه المرة في الاهتمام بنفسي، لأنني كما يقولون كائن هشّ أملك حساسية عالية تجاه استقبال المرض، فضحكتُ إذ أعادني نصحهم ليذكرني بجميع إصابات المرض التي أصابتني، وعند هذه النقطة كسائحة لاحظت بوجه عام أن مظهر ارتداء الكمامة لا زال ساريا لدى العاملين في المطار، وإذا ما انتقلت بعد ذلك إلى زيارة المتاجر كالمولات الكبيرة، كان استخدام الكمامة ينتشر بين العاملين في المول وبعض الوافدين. لم أشعر بأن الأمر يستحق الوقوف عنده، إلا عندما زرت الدكان الصغير واليتيم الذي اكتشفته مع (راحيل وآية) في عوقد التي انتقلنا إليها مؤخرا تاركين صلالة الجديدة ذات الحيوية في كلّ شيء، فكان عامل الدكان غير مهتم بارتداء الكمامة، بل إنه استهجنني وقال: "كورونا موت، كورونا حرامي". لم أعلق، غير أنني حاولت إيجاد العلاقة بين اللفظين، فغادرت للوصول إلى فكرة أخرى، حول فكرة إصابة المدن بالموت أو التحلل. فتذكرت على الفور نصائح الأصدقاء، أن الاهتمام بالتفكير في المرض، قد يؤدي إلى الإصابة به.
الحنين إلى الماضي أحد أشكال المرض. داخليا عدت إلى التفكير مرة ثانية في جملة ذلك العامل الأسيوي. لقد سكنتني الفكرة. أعرف أن المُدن تُصاب بالمرض والهزال والضعف، فجسم المدينة كجسم الإنسان، وهذا الجسم إذا تعرض منه عضو واحد إلى داء ما، أُصيبت بقية الأعضاء، كحال إصابة الجسد بالحمى. وكثيرة هي الشواهد على اختفاء المدن واندثار الحضارات، لأسباب كثيرة تجسّد أهمها في ظواهر انتشار الأمراض الفتاكة، والجهل، والفقر والجوع. وقد رصد العلاّمة (ابن خلدون 27 مايو 1332م- 19 مارس 1406م) أحوال ذبول المدن وتحوّلها من حال الازدهار إلى حال الفناء لأسباب متعددة ترتبط جلّها بمفهوم الدولة.
أدركتُ من خلال حسبة بسيطة أنه يسهلُ عند زيارة مكان الطفولة الذي نشأ فيه المرء ربط ذلك بولادة المرض، سواء كان مرضا نفسيًا أو عضويًا. وقد ربط النقاد والمفكرون محور ذلك الشعور وأسموه نوستالجيا أو التوق والحنين إلى الماضي. ومَن منْا ليس مصابًا بالحنين إلى أحد أو إلى شيء ما؟ وفي نصه المفتوح (في حضرة الغياب) يكتب الشاعر (محمود درويش 13 مارس 1941م - 9 أغسطس 2008م) هذه العبارات النابضة بالحنين عن الحنين: "فليس الحنين ذكرى، بل هو ما يُنتقى من متحف الذاكرة. الحنين انتقائيٌّ كبستاني ماهر، وهو تكرار للذكرى وقد صُفِّت من الشوائب. وللحنين أعراضٌ جانبية من بينها: إدمانُ الخيال النظرَ إلى الوراء...إلخ" ومن هذا المنطلق، ولأن للحنين فوائده فهو له أمراضه الخطيرة. أُصبتُ بالحنين إلى أماكن الطفولة؛ منطقة الحصن بجميع الحارات التي كانت فيها، وكذلك الحنين إلى مدارسي الثلاث: الرباط، و23 يوليو، والنور. كما حَننت إلى الأسواق القديمة، لكن الحنين الأعظم كان إلى أبي. وهذا الحنين الجارف إذا لم يُسارع الجسد إلى العبور فوقه فسيصاب صاحبه بالمرض، فلأقفز إلى فكرة أخرى.
عندما ظهر كوفيد 19، سارع الكثير من الناس إلى تغليب فكرة المؤامرة العالمية، وجرى أخذ اللقاح، ولكن قابل الكلام عن المؤامرة اعتقاد الناس بعجز العلم. لقد فقد العلم مصداقيته! وفقدان المصداقية لا يقتصر على العلم فحسب، بل شمل أيضا القضايا السياسية، والعلاقات الاجتماعية، والنقاشات الفكرية، حتى غرق بعض الناس في سيل النداءات التي أخذت تطلع عليهم عبر وسائط التواصل الافتراضي تتناول تقديم الأحكام والفتاوى فتاه الناس أو كادوا يتوهون في تمجيد الغث والغثاثة.
في رائحة المُدن تلعب موجات الحرّ الشديد دورها في توجيه أشكال الروائح وأنواع الهبوب وأمزجة الناس. يشير محرك البحث جوجل إلى أن مناخ محافظة ظفار يتميز "بأنّه معتدلٌ طوال أيام السنة، إلّا أنّه يتأثر بالرياح الموسمية الغربية القادمة من المحيط الهنديّ، حيث تهطل على الجبال الأمطار الموسمية المصحوبة بالسحب الكثيفة والضباب طوال أشهر الخريف، وتصل درجة الحرارة إلى أدنى مستوياتها في فصل الشتاء حيث تصل إلى خمس عشرة درجةً مئويةً"، ونظرًا لهذا المناخ المتميز، أظنني كسائحة سأبحث عن مظاهر التمدّن والحداثة والتطوير في جانب مهم هو الجانب الاقتصادي. ويعضّد هذا الاهتمام من خلال التركيز على تطوير السياحة. حسنا، يمكن أن تختفي الحارات والبيوت القديمة والشوارع والأسواق التي ترى مؤسسة النظام المنظم لأشكال الحياة المتجددة في صلالة؛ أنها تحتاج إلى تجديد وتحديث. وهذا يُمكن فهمه واستيعابه بما أن الهدف الأعم هو إثراء المكان. نظرتُ إلى نفسي كسائحة وفرحت بوجود المولات (الجاردنز في صلالة، و صلالة جراند مول) وانتشار مراكز التسوق الصغرى في العديد من المناطق، وكذلك تطوير الشوارع وتشييد الجسور، والتوسع في تزيين المدينة بالفنادق والمطاعم الفخمة وصالات الأندية الصحية وتفعيل نشاط مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه.
يمكن أن يظن السائح، أن قيم العولمة في صلالة متمددة. لكنه سيصاب بالفشل، لأنها معطّلة. قد يشاهد مظاهر العولمة في التغيرات المادية، التي تبدو آثارها تجتاح صلالة بأسرها. وسوف يُسعده منظر جمل يرعى في الجربيب دون رقيب، وأحد الرعاة إلى جانبه يسحب نفسا عميقا من الغليون، وتمر بجانبهم سيارة دفع رباعي تقودها امرأة ظفارية تضع البرقع وتتحدث في الهاتف النقّال، كما سيسره منظر شاب يرتدي دشداشة تقليدية في النهار، ليلتقيه في مقهى في المساء وهو يُزين يديه ورقبته بأساور وأذنيه بحلق!
قد تبدو الصورة السابقة منفّرة لدى المحافظين، لكنّها في قيم التصفيق باستقبال العولمة صداها مختلف. وهذه الصورة أسهل نموذج يمكن مشاهدته، لأنني لا أريد الاستطراد في العديد من النماذج المسّرفة. وفي موقع مقابل، فهذا السائح سيهتم بالتحدّث حول تجربة شربه لحليب الناقة تقليديا عند أهل الجبل، كما سيركز على المرأة العاملة التي تعمل في تحضير الخبز التقليدي الذي تشتهر به محافظة ظفار.
تتأثر أمزجة الناس بالطقس، وإذا كنا مؤخرا قد شهدنا ارتفاع هبات الحر والهواء والغبار إلى جانب الرطوبة، فإن الحياة اليومية للناس تسير على منوالها؛ فالمراكز الطبية ممتلئة بالمرضى، وقلة الأطباء، ومواقف السيارات، وارتفاع سعر الكماليات، والشباب الباحث عن العمل راح يُسلِّك نفسه في أعمال متعددة لتوفير ثمن بترول السيارة وفاتورة حياك والنورس. والعمالة الوافدة منتشرة هي أيضا في كل مكان تؤدي أعمالها الخاصة بها، لدرجة يشعر المرء أن نفوذها السابق لم يحدث له تغيير كبير! وكذلك تبادل أخبار التعليم والعودة إلى المدارس وعثرات تدريس المنهج المدرسي، فهل مشكلته في المعلم نفسه أم الطلبة وأولياء الأمور أم الفلسفة والرؤية؟ ويقابل هذا كله من باب استئناف الحياة لتسير على منوالها أن الناس يذهبون إلى الأسواق، وأن الشوارع المكتظة بالسيارات صارت تفتقر إلى قلة الاكتراث بقوانين القيادة والمشاة على الطريق، والداخل إلى المجمعات التجارية سيراها تشهد تزايدا كبيرا للبراندات والمقاهي والمطاعم العالمية، لدرجة أن بعض المقاهي التي تقدم وجبات خفيفة والشاي والقهوة تظل ممتلئة بالزبائن لساعات، فلا يجد زبون جديد أو عائلة ما فرصة للجلوس، وكنت كلما ذهبتُ إلى أحد مقاهي المولات للبحث عن طاولة فارغة، أرى الوجوه نفسها تتكرر، فيأتي قول محمود درويش إلى خاطري بتساؤل: ماذا يفعل هؤلاء كل يوم هنا؟ هل هم متقاعدون مثلي؟ هل يتسلون بتزجية الوقت؟ أم أنهم كما قال: يبحثون "خطر اليهود على وجود الله"، ثم أغادر المكان بشعور غامض.
على بالرغم من ارتفاع الأسعار بوجه عام في العالم كله، فإن أكبر الأسواق لبيع المستلزمات النسائية في صلالة (شارع عطية) يشهد كثافة عالية. قد يتعلق الأمر برغبة الناس في العودة من جديد إلى استئناف ما قطعته جائحة كوفيد 19، فالناس قد غابوا عن هذه التجمعات واشتاقوا إلى اللقاءات وتبادل الضحك والسوالف ومناشدة الأحوال، وهذا مفهوم تماما، لكن مساحة المولات الكبيرة في ظفار، مقارنة بعدد السكان تبدو غير مناسبة.
ظفار مزدحمة، سواء في الأيام العادية أو الموسمية. وبحسب المركز الوطني للإحصاء والمعلومات عبر جوجل، فإنّ تعداد الكثافة السكانية في المحافظة البالغ عددهم (420) ألفا و (324) نسمة، يتوزعون على هذا النحو: يبلغ فيها عدد العمانيون (220) ألفا و (457) عمانيا، بينما بلغ عدد الوافدين (199) ألفا و (867) وافدا وحسب المركز نفسه، فإن المحافظة جاءت في المرتبة الثالثة من حيث وجود الوافدين فيها بعد محافظتي مسقط وشمال الباطنة. نعم، مدينة صلالة مزدحمة، بقيم الحداثة أو بغيرها، مع العولمة أو ضدها صارت مكانا غريبا بالنسبة لي، وليس هناك أكثر ظرفا لأنهي هذا الحنين الزائف غير هذه التغريدة التي تبادلتَها بعض حالات الواتساب تقول: "قرب الخريف، الزائر اللي آخر مرة جانا قبل 10 سنوات يتوقع وجود تغيرات في المناطق السياحية، نعم فيه، إذا جيت دربات بتحصّل باص وردي يبيع آيسكريم".
* آمنة الربيع أكاديمية وأديبة عمانية متخصصة في شؤون المسرح
