مهنة البحث عن الشهادة..
يبدو اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة مراسلة شبكة الجزيرة الإخبارية على أيدى قناصة جيش الاحتلال الإسرائيلي الأسبوع الماضي كاشفا، ليس فقط عن صلف وغطرسة ولا إنسانية النظام الصهيوني الجاثم على صدر فلسطين وصدورنا منذ نحو 74 عاما، ولكن أيضا عن ثقوب كبيرة في ثوب حرية الصحافة ودعاوى حماية الصحفيين التي تتشدق بها منظمات دولية عديدة، وعن ازدواجية مقيتة في المعايير الدولية التي تدفع دولا ومنظمات كبرى إلى الدفاع عن حقوق من يتطاولون على الرسل والأنبياء والتضامن معهم، والتساهل وغض النظر عمن يقتلون ويسجنون الصحفيين الذين يدافعون عن أوطانهم، وينقلون جرائم الاحتلال الإسرائيلي الغاشم إلى العالم.
لا جديد يذكر في استهداف الكيان المحتل للصحفيين، وملاحقة من يكشف جرائمه في حق الإنسانية بالقتل والسجن والتنكيل، كان هذا دأبه منذ هبط عتاة الإرهابيين الصهاينة على أرض فلسطين وعاثوا فيها فسادا وإفسادا، وتطاولوا طوال تاريخهم على البشر والحجر، وسيظل كذلك إلى أن تزول دولة الاحتلال، الجديد الذي يذكر والقديم الذي يُعاد هو الموقف العالمي المتخاذل الذي يكيل بمكيالين عندما يكون المحتل هو الجاني، ويكون المجني عليه فلسطينيا عربيا. والمحزن أن دولا عربية انضمت مؤخرا إلى هذا التيار العالمي الغالب وغير العادل، بعد أن دخلت دوامة التطبيع دون مبرر مع العدو الصهيوني، وأصبحت لا تُدين سوى المقاومة الفلسطينية الفردية والجماعية، وتعلن دون خجل تضامنها مع المحتل، وتبكي قتلاه من عتاة المتطرفين والمستوطنين كما لو كانوا من أبنائها، وتتجاهل في الوقت نفسه إدانة آلة القتل الصهيونية التي لم تتوقف يوما تقريبا طوال أكثر من سبعين عاما عن استهداف أرواح الفلسطينيين.
الجديد الذي يُذكر، ويجب علينا التذكير به في اغتيال شيرين أبو عاقلة، أن الصحفيين العرب هانوا على دولهم وحكوماتهم، فهانوا بالتالي على أعدائهم بعد أن تحولت مهنة الصحافة في غالبية الدول العربية من مهنة البحث عن المتاعب -كما كان يُقال- إلى مهنة البحث عن الشهادة، وأصبح الصحفيون الذين يعبرون عن رأي مخالف لرأي النظام الحاكم ولو على حساباتهم الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي عرضة للقتل والإخفاء القسري والقضايا الملفقة وقائمة اتهامات موحدة وجاهزة ترمي بهم في السجون لسنوات، ولعل هذا ما دفع أحد الأصدقاء أثناء حديثنا عن استشهاد شيرين أبو عاقلة إلى القول إن إسرائيل بكل ما ترتكبه من جرائم ضد الفلسطينيين بوجه عام والصحفيين منهم بوجه خاص، تبدو أكثر رحمة من بعض الأنظمة العربية التي لا تتردد في ملاحقة أبنائها من الصحفيين وأصحاب الرأي والفكر، وترتكب في حقهم جرائم ربما تفوق القتل المباشر.
إن الدروس التي يمكن أن نخرج بها من واقعة اغتيال شيرين أبو عاقلة كثيرة، ولعل أولها وأهمها أن علينا أن نعزز حماية الصحفيين في دولنا العربية قبل أن نطالب أعداءنا بذلك، وأن نوفر لهم حقوقهم المشروعة قبل أن نطالب دولة الاحتلال بتوفير حقوق الصحفيين الفلسطينيين، والخطوة الأولى لتحقيق ذلك هو تغيير نظرتنا كأنظمة وجمهور للصحفيين باعتبارهم باحثين عن الحقيقة، يمثلون عيون وآذان المجتمع، وأننا نحتاج إليهم وإلى جهودهم ليس فقط لنقل أخبار الإنجازات المرئية وغير المرئية إلى جموع المواطنين، ولكن أيضا لكشف الأخطاء والتنبيه إلى المخاطر التي تواجه مجتمعاتنا العربية.
لقد كان الصحفيون العرب ومنذ معرفة العالم العربي بالصحافة في نهايات القرن التاسع عشر موضع شك دائم من جانب الأنظمة السياسية سواء في فترات الاحتلال الأجنبي أو في فترات الحكم الوطني، وقد تزايد هذا الشك في الفترة الأخيرة، بعد الدور الذي لعبته وسائل الإعلام في التمهيد لثورات الربيع العربي، فقد ضاعفت هذه الثورات من مخاوف الأنظمة من الصحفيين ووصل بعضها إلى حد الرعب من كل محاولة ولو محدودة النطاق، للتعبير عن رأي أو موقف مخالف للنظام الحاكم.
واقع الحال أن علاقة غالبية الحكومات العربية بالصحفيين ما زالت علاقة مضطربة وغير سوية، وتحكمها مخاوف أو هواجس وأوهام متوارثة لدى الحكومات التي ما زالت تعتقد أن ما يكتبه بعض الصحفيين ربما يسبب اضطرابات سياسية واجتماعية إلى الحد الذي لا تستطيع معه الحكومة أن تحكم، وقد دعم هذه الهواجس عدم وجود تقاليد ديمقراطية تشجع الخلاف في الرأي والنقاش والقدرة على تحمل الرأي الآخر، كما دعم استمرارها تلك التعددية الطائفية والعرقية والمذهبية التي تسود بعض الدول العربية، وتخشى الحكومات من أن يؤدي التساهل مع الصحفيين إلى تفتيت الدولة.
وعلى هذا الأساس تتعامل بعض الحكومات العربية مع الصحفيين الذين يحاولون الكشف عن الفساد في الإدارة أنهم يجب إسكات أصواتهم بكل الطرق الممكنة القانونية وغير القانونية، ظنا أن ذلك قد يؤدي إلى إسقاط الحكومة.
هذه النظرة المتشككة للصحفيين يجب أن تتغير داخل الدول العربية قبل أن نطالب الأعداء بحماية أبنائنا الصحفيين والإعلاميين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لقد افترض الحكام أن الصحفيين لديهم القدرة على تعبئة الشعوب للإطاحة بالحكومات، وأن ما قد تسببه هذه الصحافة من اضطرابات سيكون له أثر مباشر على استقرار الحكومات، وأن مقالا في صحيفة يمكن وحده أن يطيح بالحكومة، رغم أنه ليس هناك دليل واضح على أن الصحفيين لديهم وحدهم هذه القوة، فالاضطرابات السياسية التي حدثت وتحدث في بعض الدول العربية لم تكن نتيجة ما يكتبه الصحفيون فقط، وإنما كانت استجابة لقوى وعوامل مختلفة، من بينها رغبة الشعوب في التمتع بمساحة أوسع من الحرية، وتحقيق مزيد من العدالة في توزيع الثروة، وضمان الحياة الكريمة للشعوب.
من هنا وبسبب تلك الهواجس غير المنطقية كان التعامل مع الصحفيين عنيفا في كثير من الدول العربية، ولذلك أصبحت دولة الاحتلال تتصدر التقارير الدولية المعنية بحرية الصحافة والصحفيين باعتبارها الأكثر تسامحا مع الصحفيين والأكثر حرصا على سلامتهم، بينما تأتي الدول العربية في ذيل تلك التصنيفات، وينظر العالم إلى بعضها باعتبارها «أعداء حرية الصحافة». ولذلك عندما ترتكب إسرائيل جرائمها المتجددة في حق الصحفيين العرب في الأراضي المحتلة لا يهتم العالم كثيرا على أساس أن بعض الصحفيين العرب يخضعون لنفس الممارسات القمعية ويتعرضون في دولهم إلى القتل والسجن والتعذيب.
من الأفضل أمام هذا الحدث الكبير أن ننظر إلى أنفسنا في المرآة، وأن نصلح أساليب التعامل مع الصحفيين، ونوسع من نطاق حقوقهم وسبل حمايتهم قبل أن نطالب دولة احتلال بذلك، فالصحفيون في عدد كبير من الدول العربية ليسوا أسعد حالا من الصحفيين في الأراضي العربية المحتلة، وحتى لا تصبح الصحافة مهنة البحث عن الشهادة.
أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
