لعنةُ العقد الثامن على إسرائيل
من جديد عادت إلى السطح وبقوة نبوءةُ زوال إسرائيل، بعد أن انضمّ صوتٌ جديدٌ إلى من سبقه بهذا التنبؤ، وهو صوتُ شخصٍ خدم الكيان الصهيوني في مواقع مختلفة إلى أن وصل إلى منصب رئيس وزراء الكيان، وهو إيهود باراك الذي أعرب عن مخاوفه من انهيار إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ 80 على تأسيسها، وذلك في مقال كتبه لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية يوم الأربعاء، الرابع من مايو 2022، لتأخذ هذه النبوءة اتجاهات عدة منها علمية، ومنها الحسابات بالأرقام، ومنها التحليلات التاريخية أو السياسية؛ فيما ذهب المتفائلون إلى أكثر من ذلك، بطرح أسئلة حول الوضع ما بعد زوال إسرائيل، وكيف ستكون فلسطين المحررة، في ثقة شبه تامّة أنّ الزوال قادم لا محالة. ومخاوفُ إيهود باراك أعادت إلى الأذهان مخاوف بنيامين نتنياهو التي عبّر عنها قبل خمس سنوات أي عام 2017، عندما قال حينئذ إنه حريص أن تبلغ إسرائيل المئوية الأولى، لكن التاريخ يخبره "أنه لم تعمّر لليهـود دولة أكثر من 80 سنة في كلّ تاريخها إلا مرة واحدة هي دولة الحشمونائيم..".
وبعيدًا عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، فإنّ كلام إيهود باراك يوضّح بشكل واضح أنّ قلق القيادات الاسرائيلية بشأن مستقبل دولتهم هو قلقٌ حقيقي وله ما يبرره، وأنّ الشعور بالخوف من زوال كيانهم المصطنع، هو شعورٌ ملازمٌ لهم، يشاركهم فيه كلّ المستوطنين. وعندما يكون هناك شعورٌ بعدم اليقين بالمستقبل، فهذا وحده أكبرُ دليل على الزوال؛ إذ ما الذي يجعل أناسًا شاركوا في بناء الدولة الإسرائيلية، وساهموا مساهمة كبيرة في بناء قوتها العسكرية، يشعرون بتلك المخاوف، رغم معرفتهم بأنّ الطرف الثاني - أي العرب - في أضعف حالاتهم الآن؟
في مقاله عن مخاوفه بزوال إسرائيل استشهد باراك - كما فعل قبله نتنياهو - بـ"التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين؛ فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن". ويرى أنّ تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي التجربة الثالثة وهي الآن في عقدها الثامن، وإنه "يخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقتيها". ولكن العنجهية والغطرسة الإسرائيلية ظهرتا في مقال باراك عندما قال: "إنّ إسرائيل تقع في محيط صعب لا رحمة فيه للضعفاء"، محذرّا من العواقب الوخيمة للاستخفاف بأيّ تهديد، قائلا "بعد مرور 74 عامًا على قيام إسرائيل أصبح من الواجب حساب النفس"، منبّها إلى أنّ "إسرائيل أبدت قدرة ناقصة في الوجود السيادي السياسي"، وهو ما ذكّرنا بكلام ديفيد بن جوريون المؤسس الحقيقي للكيان الصهيوني عندما قال باكرًا جدًا "إنّ إسرائيل محاطةٌ بالأعداء، ويجب أن يكون لها قوة ردع نووي"، وقد تكون المخاوف على مستقبل الكيان الصهيوني هي التي جعلت باراك يتحدّث عن قدرة إسرائيل الناقصة في الوجود السيادي السياسي، رغم أنّ هذا الكلام يكذّبه الواقع، فسياسيًا لإسرائيل الآن علاقات مميّزة واستراتيجية مع كلّ حلفاء العرب السابقين، تلك العلاقات التي قامت على أنقاض العرب، لأنهم غائبون عن الساحة الدولية؛ بل إنّ ما حصلت عليه إسرائيل الآن من بعض الدول العربية - التي طبّعت العلاقات معها - لم تكن تحلم به بتاتًا، والمؤلمُ في ذلك أنها حصلت على كلّ شيء بدون أيّ جهد ودون إطلاق رصاصة واحدة. وأسوأ ما في تطبيع العرب مع الكيان الصهيوني هو مدّ عُمر إسرائيل سنوات أخرى زيادة، وهذا ما حصل سابقًا، خاصةً بعد اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وهو ما لفت إليه إيهود باراك عندما قال في مقاله إنّ "اتفاق السلام مع مصر كان بمنزلة نقطة تحول سياسي لإسرائيل، إضافة إلى تدمير المفاعل العراقي، واحتلال بيروت، ووصول مليون مهاجر من روسيا، وكذلك اتفاق السلام مع الأردن". ولم يفته أن يشيد باتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية التي تمّت العام الماضي، وضمّ تلك الاتفاقيات إلى إنجازات إسرائيل العسكرية على لبنان وسوريا وغزة وكذلك القدرة على تحدي إيران.
وحقيقةً فإنّ الخوف من زوال إسرائيل، جعل القيادة الإسرائيلية تبحث عن وطن بديل (احتياط) لفلسطين المحتلة؛ وهذا أمرٌ واضحٌ لا يخفى على المتابع البسيط؛ إذ سعت إلى إيجاد مكان يستثمر فيه الإسرائيليون، ويستلمون الجنسية الجديدة المزدوجة، ويستفيدون من كلّ الميزات المتوافرة في الوطن البديل، مع إقامة مجمّعات سكنية خاصة تشبه المستوطنات، وإقامة كامل الشعائر الدينية؛ وهي ميزاتٌ قد لا تتوفر في الكيان الصهيوني نفسه. ولو أنّ ضرر التطبيع اقتصر على الدول المطبّعة كان الأمر هينّا، ولكن الأمر يتعدى إلى الضرر بجيران هذه الدول المطبعة. وفي كلّ الأحوال فإنّ العواقب ستكون أليمة؛ فتجاربُ التطبيع السابقة شاهدة على ذلك.
إنّ ما يتخوف منه نتنياهو وباراك وكلّ القيادات الإسرائيلية، سبق أن جاء على لسان العديد من المحللين والمفكرين والسياسيين، ومن بينهم الجنرال المُتقاعد شاؤول أرئيلي، المُستشرق المُختص في الصّراع العربي الإسرائيلي الذي نشر مقالًا في صحيفة "هآرتس" قال فيه إنّ الحركة الصهيونيّة "فشلت في تحقيق حُلم إقامة دولة إسرائيليّة ديمقراطيّة بأغلبيّة يهوديّة، وإنّ الوقت ليس في صالح إسرائيل، وإنّ هذه النظريّة سقطت"، فيما نشر المحلّل الإسرائيلي، آري شافيط، مقالًا في الصّحيفة نفسها كان أكثر تشاؤمًا، حين قال: “اجتزنا نقطة اللّاعودة، وإسرائيلُ تَلفُظ أنفاسها الأخيرة، ولا طعم للعيش فيها، والإسرائيليّون يُدركون مُنذ أن جاؤوا إلى فلسطين أنهم ضحايا كذبة اختَرعتها الحركة الصهيونيّة، استخدمت خِلالها كُلّ المَكر في الشخصيّة اليهوديّة عندما ضخّمت المحرقة واستغلّتها لإقناع العالم أنّ فلسطين أرض بلا شعب، وأنّ الهيكل المزعوم تحت الأقصى"، واختتم مقاله بالقول: "حان وقت الرّحيل إلى سان فرانسيسكو أو برلين". وما قاله المفكر اليهودي البريطاني، جون روز، وهو صهيوني سابق منشقّ، وصاحب الكتابين المشهورين "أساطير الصهيونية"، و"إسرائيل الدولة الخاطفة.. كلبُ حراسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" يصبّ في الاتجاه نفسه: "عاجلًا أو آجلًا، الوضع داخل هذه الدولة سينهار، ولا أرى مستقبلًا لإسرائيل في المدى الطويل"، وهو ما عبّر عنه أيضًا إبراهام بورغ رئيس الكنيست الأسبق، في مقال له نُشر في "واشنطن بوست"، إذ قال "إنّ إسرائيل على أبواب نهاية الحلم الصهيوني، وتتجه نحو الخراب"، ودعا، في مقالته، الإسرائيليين إلى امتلاك جواز سفر آخر، كما أوضح أنه هو نفسه امتلك جواز سفر فرنسيًا.
ومن جميل ما قرأتُ مؤخرًا كتاب "إسرائيل: دولة بلا هوية" للباحثين الفلسطينيين عقل صلاح وكميل أبو حنيش الصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربية"، إذ يصل الباحثان إلى خلاصة مفادها أنه بعد مرور أكثر من سبعة عقود على إنشاء إسرائيل، وخوضها عددًا كبيرًا من الحروب مع الفلسطينيين والعرب، وانتصارها في معظم هذه الحروب، إلا أنّ شأنها شأن أيّ مجتمع استيطاني غريب، يظلّ محكومًا بالهواجس والقلق الوجودي، خاصة في ظلّ استمرار حالة المقاومة، وفشل إسرائيل في التخلص من السكان الأصليين بفلسطين. لذلك يبقى الإسرائيليّ يعاني هاجس الفلسطيني، ولا يمكن تعريف هويته إلا مقابل الآخر الفلسطيني، الذي يمثل كابوسًا حقيقيًا للإسرائيليين، ولا يمكن في أيّ حال من الأحوال التخلص من الآخر إلا بإعطائه حقه، وهو أمرٌ لا يمكن أن تسلّم به إسرائيل طواعية أو نتيجة لتحولات داخلية، وإنّما من خلال استمرار الضغط الفلسطيني والعربي الذي سيجبر إسرائيل على الإذعان في نهاية المطاف للحقوق الوطنية والسياسية للفلسطينيين. وأنا أتفق مع رأي الباحثين الفلسطينيين، فإنّ نبوءات زوال إسرائيل لم تأت من فراغ؛ وإنما جاءت من خلال مقاومة وصمود الشعب الفلسطيني ورفضه للاستسلام حتى يستعيد وطنه، وكذلك صمود محور المقاومة الذي ساند ودعم القضية الفلسطينية، رغم الخذلان العربي الرسمي. وممّا يؤسف له أن نقول إنّ على الفلسطينيين أن يدافعوا عن وطنهم وقضيتهم وشرفهم بأنفسهم ولا يعتمدوا على أحد؛ فتجارُ القضية كثيرون حتى من بعض الفلسطينيين؛ لأنهم إذا اعتمدوا على العرب فإنهم سيضيعون كما ضاعوا من قبل؛ والإسرائيليون يعرفون جيدًا قوة الشعب الفلسطيني؛ فالكاتبُ الإسرائيلي اليساري جدعون ليفي يقول: "إنّنا نُواجه أصعب شعب في التّاريخ، وعمليّةُ التدمير الذاتي والمرض السرطاني الإسرائيلي بلغا مراحلهما النهائيّة، ولا سبيل للعِلاج بالقبب الحديديّة، ولا بالأسوار، ولا بالقنابل النوويّة". وأنا على المستوى الشخصي أؤمن إيمانًا جازمًا بزوال إسرائيل، ويرونه بعيدًا وأراه قريبًا، ولكن ليس على المدى القريب المنظور، فقد يصل عمرُها إلى الثمانين وقد يتخطى المئة، لكنه زائل لا محالة.
