غياب القراءة وعيٌ منقوص

08 مايو 2022
08 مايو 2022

"أموت وفي نفسي شيء من حتّى" هكذا قال سيبويه معبرا عن حيرته من تشكلات حتّى وتلوّنها بين حرف جر أو عطف، أو نصب أو ابتداء، ولأن كثيرا ممن أتى بعده تلبستهم حيرةُ سيبويه من حتى - إزاء متغيرات كثيرة، بل وثوابت أحيانا- جرت عبارته مجرى الأمثال، وها نموت نحن كذلك وفي أنفسنا أشياءٌ من "حتّى" مُعاصرة.

وحيرتُنا اليوم تحملُ تشكلاّت الثقافة والقراءة وما قد يسَّاقط بينهما من تهافت القول وهُزال النقل، عودا على بدء سؤال حيوي حول دور المثقف العضوي وتأثيره.

إن كانت القراءةُ سببا من أسباب الثقافة في مجتمعات تؤمن بالمعارف والخبرات سبيلا لبناء الوعي أولا، ثم تفعيل هذا الوعي المتشكل للتأثير الحقيقي على الواقع المعاش، سواء أكان واقعا فرديا أو واقعا مجتمعيا عاما فأين تلاشت القراءة عند تلقي كثير من وسائل التغيير، وغيرها من وسائل التطوير؟! والقراءةُ هنا هي القراءُة الناقدة الإيجابية لا القراءة العابرة السلبية.

إن كان الأمر كذلك فأين تسرّب تأثيرُ القارئ والمتلقي والمثقف أوانَ صياغة القانون، أو عند تخطيط المستقبل فكريا واقتصاديا واجتماعيا مع تصورات لمشاريع اقتصادية وقوانين لمجالات حياتية مختلفة، يتلقاها العامة والنخبة بصمت مطبق أو ثرثرات قد تتضمن نقدا أو تمحيصا لكنها لا تسعى ولا تجد قنوات لتوثيقها.

كيف يمكن لقارئٍ نابهٍ – فضلا عن مثقفٍ ناقدٍ – إغفالَ ما يمكنه تشكيلَ غده المأمول هو ومن سيأتي معه أو بعده من أجيال؟ وعوضا عن نقد الأسباب وتفنيدها يصب جام غضبه على النتائج مؤسساتيا بعد قبوله ضمنيا (عبر صمته) بآلياتها.

وحينها فقط يغلبه القانون بتأجيله غضبته إلى غير أوانها.

كيف تتابعت المراحل الزمنية مقدمة لجمهورها الواعي - أو حتى غير الواعي- مجموعة من التحضيرات ثم الإعداد ثم صياغة قوانين متعلقة بحاجاته الرئيسة كالعلم والصحة والمسكن، أو بحرياته الفكرية والاجتماعيه، أو بحقوقه الإنسانية العامة أو واجباته أسريا ومجتمعيا دون أن تسترعي انتباهه أو تثير فضوله لقراءتها وتمحيصها؟! ثم نقدها قبل صدورها، أو ربما رفضها حتى بعد صياغتها مباشرة إن لم تتواءم وقناعاته ومنطقه المبني على وعي بها (بالضرورة) وبمبرراتها ونتائجها!.

واعتمادا على الوعي وحده ينبغي النظر إلى كل ما يقدم بعين فاحصة ناقدة حتى لا نؤخذ بالتطبيق بعد فوات أوان النقد.

يتداعى كل ذلك كلّما أثارت قضيةٌ ما الرأيَ العام حولَ حرية الإعلام، أو حرية الرأي عموما، عن مساحات هذه الحرية وقيودها، منطلقاتها ووجهتها، ما لها وما عليها، ما ينبغي لها، وما يؤمل منها.

تضج منصات وسائل التواصل الاجتماعي "الإعلام البديل" بصخب أصوات مختلفة تنتقد الإعلام التقليدي، وآراء متباينة تنتقد المؤسسات وقيودها وتضييق قوانينها على فضاء الرأي وسماوات التعبير، هذه تؤيد وتلك تعترض، وأخرى بين بين لا تدري لرأيها ضفة ولا لبغيتها ساحل.

وإن ابتعدنا قليلا عن مركز الصخب لنراقب بعين المتأمل المتدبر كل هذه التصادمات المكرورة، والتكتلات المرحلية العابرة لا بد لنا من اعتراف شجاع بتقصيرنا قراءً ومتلقين قبل كوننا مثقفين، تقصيرنا إزاء القراءة الحقيقية الفاعلة المؤثرة في الواقع، والمشكلة للمشهد الفكري العام.

لا بد من اعتراف آخر بأن أصواتنا المتناثرة المتباينة ينقصها التنظيم، ويعوزها الإخلاص لفكرة الوعي بالاختلاف سبيلا للتكامل، حينها وحسب ستكون قراءتنا فاعلة وأصواتنا مؤثرة، أما حين تضيق مساحاتنا بقبول اختلافاتنا الفكرية وأطروحاتنا الثقافية، وحين نحتشد لمن يشبهنا ونحتفي بالتضييق على المختلف عنا فلا أقل من أن نصطدم جميعا بنتيجة مشتركة نعبرها تباعا، بحفرة (كحفرة محمود درويش في قصيدته "سيناريو جاهز") نتشاركها معا، ولا سبيل للخروج منها إلا عبر اعترافنا بوحدة المكان ووحدة الأزمة ثم تحاورنا التفاعلي الواعي تعبيرا عن إدراكنا العميق لوحدة المصير ووحدة الهدف.

قراءتنا الواعية لكل القوانين المرتبطة بحرية التعبير وحرية الرأي، ولوائح الصحافة والإعلام وحتى القوانين واللوائح العامة تجعل منا مراجعين لهذه اللوائح وهذه القوانين، ثم مقترحي تطويرها، ثم شركاء تداول وتطبيق؛ إذ منطلق هذه القوانين هو نحن، ونحن كذلك متلقيها وميدان تطبيقها، فإن لم نقرأ ونرفض ونقدم بدائل ونصر عليها أوان صياغة وتخطيط فأي فضل في اعتراض بعد رسم قانون أو عند تنفيذ؟!

تتلوّن القضايا وتتبدل منصات تناولها وجهات تداولها لكن المعِّول على القراءة ثم القراءة ثم النقد الفاعل المرحلي الذي نرجو أن يجد سُبُلَه الأنسب سعيا لغدٍ مأمولٍ أرحبْ.

• حِصّة البادي أكاديمية وكاتبة عمانية