عن مسلسلات الاحتيال
منذ بداية هذا العام فاجأتنا نتفلكس بمسلسلات جديدة تحمل ثيمة واحدة، وهي الاحتيال. هذه المرة من يحتال أناس عاديون للغاية، غالبًا ما ينتمون لطبقات فقيرة، وأبرز الإنتاجات الضخمة التي شغلت الناس في الفترة الماضية هي The Tinder Swindler ومسلسل Anna Delvey. بعد مشاهدة هذين العملين، لن يتوقف الأمر بالنسبة لك عند هذا الحد، فكلا الشخصيتين اللتين يقدمهما هذا العمل يمتلكان حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن بطلا وثائقيا "محتال تندر" يشاركنا لحظة بلحظة زيادة عدد متابعيه بتسارع فريد خلال دقائق، ويقدم لنا فاصلًا يذكرنا فيه بإقدامه على مقاضاة نتفلكس على تقديمه كمحتال، يظهر لنا في المسلسل بصوره الحقيقية وبفيديوهات قام باستخدامها في الاحتيال على نساء قام بمواعدتهن على تطبيق تندر الشهير.
أما عن آن ديفلي فقد غادرت السجن قبل عام، إلا أن وضعها مختلف بعض الشيء عن محتال تندر، وذلك لأنها احتالت على أكبر الشركات المالية في نيويورك، وذلك لتمويل مشروع أطلقت عليه "مؤسسة آن ديلفي للفنون" عبر طلبها لأربعين مليون دولار، مدعية أنها تمتلك صندوقًا ائتمانيًا في ألمانيا، وأنها وريثة لأب ثري جدًا، تتمتع ديلفي الآن بشعبية كبيرة في كل مكان من العالم، إذ تمثل بالنسبة للصحفية التي تابعت قصتها، حكاية عن الصراع الطبقي والحراك الاجتماعي، فديلفي في الحقيقة ابنة لرجل فقير للغاية يعمل في محل تبريد للحوم في ألمانيا وهو لاجئ روسي غادر روسيا مع انهيار الاتحاد السوفيتي وما زال يواجه أزمة في الاندماج مع المجتمع الألماني. ديلفي أيضاً، خرجت من السجن قبل عام وتغرد عبر حسابها على تويتر، أنا نفسي بعد المسلسل قرأت كل تغريداتها، تملكني فضول شديد بشأن شعورها إزاء كل ما حدث معها، وأظن بأنك صديقي القارئ ستشاركني الموقف نفسه إذا شاهدت العمل.
بعيدًا عن ذلك تدفع محاولات الإنتاج هذه للتساؤل حول هذا النمط الجديد من الأعمال التلفزيونية، ترا هل أصبحت مسلسلات الجرائم التقليدية غير جاذبة كما كانت. يعيدني هذا لفكرة لطالما ناقشتها معكم هنا، وهي الاعتماد على "الجدة" كمعيار لأي عمل فني أو ثقافي أو حتى تجاري، لم لا! ما دامت كل هذه المجالات أصبحت صناعات مستقلة تسند اقتصادات دول كاملة، وبدأتُ بالقراءة عن هذا الموضوع وتعثرت بمقالة لستيوارت هيريتدج عبر الجارديان، يرجو فيها أن نتوقف عن صناعة أعمال الحيل والاحتيال.
بحسب هيريتدج تدور هذه الأعمال عن الأشخاص الذين تم اكتشافهم في نهاية المطاف، وتسمح بارتفاع عالي في معدلات الدوبامين لكي نشعر بالإثارة مع معاقبة هؤلاء الأشرار لخرقهم القواعد، ويتفق في نظريته مع فكرتي عن الجدة، إذ يعود الأمر للجريمة الحقيقية إذ تشبعنا من نوع الجريمة الحقيقي، فلم يبق أي حدث على مدار الـ75 عامًا الماضية لم يخصص له سلسلة على نتفلكس مكونة من ستة أجزاء. تتوفر الآن العديد من أعمال القتل فأصبح من المستحيل الآن مفاجأة أي شخص بجريمة لا يستطيع تصورها. وهكذا عدنا ببساطة إلى أسفل السلم بعد أن ولى القتل، وحان وقت عروض التعاملات المالية الغامضة لتصبح في دائرة الضوء، فهي تشتمل بعد كل شيء على خطوات جريمة القتل الأساسية، من الخداع، والاعتلال الاجتماعي، والرغبة في الفرار من العدالة، باستثناء أن الأمر ينتهي هنا بالإفلاس المادي، بدلاً من الموت. وهذا صحيح بطريقة مخيفة فبعد حياة مليئة بالبذخ والتنقل بطائرة خاصة، نجد أن الشخصيتين تعانيان في الشارع بلا مأوى، ويتنبأ بأن ما هذا إلا ناقوس البداية. فبعد ستة أشهر من الآن، سيبدو هذا الطوفان من العروض وكأنه قطرة صغيرة.
شخصيا هنالك شيء آخر أرتاب منه بخصوص هذه الأعمال، وهي التوجهات التي يعتمد عليها صناع العمل، هل يريدون منا أن نصبح أكثر تعاطفاً مع آن ديلفي؟ وهذا ما يبدو أنه قد حدث بالفعل، ويريدون أن نشعر بالغضب والتهديد المستمر من قربنا من المحتالين كما في محتال تندر ووجوده على إنستجرام طليقا رغم كل الجرائم التي ارتكبها، وتستطيع أن تجري معه محادثة مباشرة إذا دخلت على حسابه في إنستجرام الذي ينشط عليه كثيراً مؤخراً، ما أريد قوله هو أنني لا أستطيع أن أسلم الخيط لتجار آخرين هم أصحاب هذه المنصة أو تلك، وبأنهم لأسباب تجارية قد يحرفون زاوية النظر للموضوع. حالة الارتباك هذه تلبستني بعد مشاهدة آن ديلفي، فها هي في المشهد الأخير تمسك بيد الصحفية التي تابعت قصتها وبعكس رعونتها في التحدث التي يقدمها المسلسل من البداية، تبدو هشة وضعيفة وعاطفية للغاية، مشهد يؤثر فيك بلا حد لكن إلى أي درجة يظهر متسقا مع بقية ما جاء في المسلسل نفسه لا القصة الحقيقية هنا!
إلا أن هذا الإنتاج يقدم فكرة جديرة بأن تناقش بصوت أعلى، وهي الصورة وأهميتها في عصرنا الحديث، قدم نفسك على أنك ثري وناجح وستكون كذلك مع مرور الوقت، أتذكر أن صديقا قال ذات مرة أنك إذا أردت الحصول على وظيفة جيدة اذهب لمقابلة العمل بسيارة فارهة وهندام ثمين، ورغم أن الأمر يدعو للسخرية فإذا كنتُ بحاجة للمال من العمل الذي أتقدم إليه فكيف يفترض بي أن أحصل على المال لكي أمتلك السيارة والحقيبة التي تتجاوز قيمتها ٢٠٠٠ ريال عماني؟ إلا أن العالم يسير اليوم بهذه الطريقة شئنا أم أبينا، وعلينا أن نراجع ذلك بتمعن، آن ديلفي أوشكت على الحصول على ٤٠ مليون دولار، وحصلت بالفعل على ما يزيد عن ربع مليون دولار، بل سكنت في أكثر الفنادق فخامة دون أن يطلب منها بطاقة بنكية عند تسجيلها للدخول، لأن مظهرها يقول بأنها فاحشة الثراء ولا يريدون إزعاجها بهذه المسألة الآن. آن ديلفي لم تكن تمتلك دولارًا واحدًا، وسافرت لتسكن في أغلى منتجعات العالم في المغرب بتكلفة تصل لعشرة آلاف دولار في الليلة، لأنها عرفت بنفسها كوريثة لملياردير ألماني، وحتى هذه اللحظة مع كشف أنها ليست كذلك في الحقيقة لا يصدق كل من تعرضوا لحيلها بأن ما وقعوا فيه كان احتيالًا، لأنها برأيهم تمتلك كل علامات الثراء.
