مأساة أن تكون إقصائيًا
منذ آخر مقالة نُشرت لي هنا "مأساة أن تكون تبسيطيًا" وأنا أحاول إعادة النظر في مسألة "تبسيط" الأمور، وعدم النظر في احتمالية تعقيدها، وكيف يمكن لموقف كهذا أن يغير كل شيء منذ تقبلنا للآخر، وصولا لانفتاحنا على فهم أنفسنا بصورة أفضل.
سأحاول تقديم بعض الأمثلة، وما أطلبه منك صديقي القارئ، هو جعل الباب مواربًا ليس إلا، إنها ليست محاولة لمناورتك، أو الدخول معك في حالة من الجدال، إنني أضعُ الأشياء على الطاولة فيما بيننا فحسب.
يبدو أن أحد زملائي في العمل سمع في أروقة معرض مسقط الدولي للكتاب الذي أسدل الستار عليه قبل أيام، شيئا عن العنف ضد النساء، قال بشجاعة أن هذا لا يحدث في عُمان، وأنه هو من يتعرض للعنف من زوجته، وأن النسويات يقدمن خطابًا غربيًا، وأنهن لا يفهمن ما يردنه بالفعل، ليس هذا ما أثار اهتمامي بوجه خاص، قال لي: ما يدّعين تبنيه هنا ليس النسوية، وإن كنّ صادقات فالنسوية ينطوي عليها مبادئ محددة وعليهن إعلانها صراحة.
كان بهذا يتحدى "النسويات" المتخيلات في رأسه أن يخرجن إلى الملأ وأن يقلن ما تؤمن به النسوية بالفعل، وهو بذلك يشير لتجاوزات دينية وأخلاقية لا حصر لها ستضع هاته النسويات في مأزق، وستظهر رغبتهن في تفكيك المجتمع وانحلالهن هن أنفسهن أمام الجميع. كنتُ عندما سمعتُ هذا الكلام منه، قد أنهيتُ يوم عمل صعب ومزدحم، ومع ذلك قلتُ له ببساطة أن لا وجود للنسوية التي يتحدث عنها، وأنها مثل أي شيء آخر، يحتوي على مدارس واتجاهات فكرية مختلفة، يجمعها الرغبة في إنهاء التمييز على أساس النوع الاجتماعي، وتكاد تختلف كليا في الطريقة التي تسعى من خلالها إلى تحقيق ذلك، سرعان ما انفعل وأصبح عدائيا، وأخذ يملي عليّ الحقيقة الغائبة، قائلا أن عليّ فتح "جوجل" على الفور، أو قراءة ما كتب على صفحة ويكيبيديا.
تذكرتُ في أثناء ذلك مأساة المحتوى العربي على الإنترنت، أو عدم تمييزنا للمصادر المفتوحة القابلة للتعديل من طرف المستخدم، واعتبارها مصدرا نهائيا للمعرفة، كما تذكرتُ وفي سياق حديثنا داخل أروقة معرض الكتاب، تأخر الترجمة في العالم العربي وانحيازها مثل أي شيء آخر نحو سردية معينة، مع محاولات جادة لدور نشر متخصصة حاولت تقديم أمهات الكتب في هذا الموضوع أو ذاك، وبسبب من ضعف تمويل هذه المشروعات فقلما تستطيع الوصول إلى القارئ أو أن تبقى وتزدهر.
دعوني أقول أن المشكلة ليست في موقفه من النسوية أو رأيه عنها -مع تحفظي على ذلك- بل في اليقين المطلق بأنه يعرفها جيدا، وأنني إما ضحية مؤامرة جندتني في هذه الحرب، أو متلاعبة أخفي رؤى تدميرية أمررها بقصدية عبر تبني هذه الأفكار. لستُ هنا لمناقشة موضوع النسوية، عليّ أن أعيد قول ذلك عزيزي القارئ، بل هي محاولة للنظر في الطريقة التي نفكر بها عموما وكيف نتعامل مع مختلف الموضوعات التي تضعها الحياة بأي وسائطها في طريقنا.
يصادفُ ذلك كله أنني أنهيت قراءة كتاب مهم للغاية، وممتع هو "سياسة التقوى" للباحثة الباكستانية صبا محمود، هذه الباحثة مع أخريات قدمن تفكيكا لخطابات النسوية الاستعمارية والأنوثية البيضاء، سارة أحمد مواطنتها، قدمت كتابها "عيش حياة نسوية" بمناقشة فكرة إمبريالية النسوية، وعن كونها استقت نسويتها من نساء عائلتها غير المتعلمات واللاتي لا يعرفن شيئا عن الحياة خارج حدود القرية التي نشأنَ فيها. إنها تبحث في جذور الوعي النسوي دون وجود خطاب نسوي أو سياسة نسوية معلنة.
في كتاب "سياسة التقوى" تبحث صبا محمود في هذه المنطقة نفسها، عندما تقرر ملاحقة المقاومة والوعي النسوي لدى ما أسمته الحركة المسجدية، متمثلة في النساء اللاتي شكلن مجموعات في التسعينيات لمناقشة وتدارس أمور الدين في حلقات تعليمية في المسجد داخل القاهرة، وتحرص صبا محمود على تعيين عينة الدراسة بحيث تمثل طبقات اجتماعية مختلفة. عادة ما ينظر للنساء اللاتي ينتمين لهذه المجموعات بأنهن يعدن إنتاج القمع، وأنهن مستلبات ويخضعن للهيمنة الذكورية، لكن النقاشات النسوية، التقاطعية منها أعادت النظر في طبيعة المجموعات الإنسانية ونوع السلطة الواقعة عليها، وتمثلت لموقف فوكو من مقاومة هذه السلطة والتي تعتمد على فكرة أن أي نظام هيمنة، ينتج طريقة المقاومة الخاصة به، ووفقا لذلك، لا يمكن أن تختزل معايير مقاومة الهيمنة والإقصاء والعنف في شكل واحد تقدمه "النسوية الليبرالية" على اعتبار أنها تمتلك بوساطة النظام العالمي الرأسمالي الذي نعيش فيه امتياز الانتشار ووسائط التعبير.
بذلك يكون هنالك نسوية إسلامية مثلا؟، ولا يستطيع أحد أن يشكك في ذلك، بل يمكن أن أمتلك رؤيتي وطريقتي في المقاومة وتكون خاصة بي وحدي دون أن أخضع لأجندة محسومة كما يظن زميل العمل في بداية المقال، ينبغي هنا أن أشير إلى مسألة مهمة، وهي أن هذه الفكرة ليست حديثة أو جرى اختلاقها في مجتمعنا، لقد كانت الحركات النسوية نفسها تعيش مخاض هذه الأسئلة، وتقدم عليها إجابات متباينة للغاية، فالحركة النسوية في موجتها الثانية آمنت بشراكة النساء في اضطهاد أنفسهن عبر التسليم بمن يضطهدهن، وكان أحد الحلول المقترحة هي توعية النساء حول ما يتعلق باضطهادهن، مع مرور الوقت، والحركة الثالثة جرى الحديث فيها عن أشكال للمقاومة الخفية، ينطوي عليها إيمان بأن للمقاومة أشكالا لا حصر لها.
تبحث العديد من النسويات المسلمات في إعادة قراءة التراث، والعودة لتفاسير القرآن والسيرة النبوية، لتقديم تصور عما كان عليه وضع المرأة في ذلك الوقت، وعلاقتها بنفسها وبالآخر وبالعالم، قرأتُ مقالا رائعا حول تفسير الآية الثالثة والعشرين من سورة «ص»: {إنّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدة}، للكاتبة سارة مبارك، وهو رحلة انطوت على تصفح «معاني القرآن»، و«إعراب القرآن»، ومصادر أخرى لفهم المقصود بالنعجة في هذه الآية القرآنية، لطالما كان مغريا بالنسبة لي، اكتشاف هذا النوع من البحوث والاشتباك بهذه الأسئلة. إن رحلة البحث هذه مضنية، والاستمرار فيها لا ينفصل أحيانا عن دواعي إيمانية بسردية الدين الإسلامي حول حياة الإنسان، وتعميره للأرض.
بقي أن أؤكد على أننا لا نستطيع عزل أنفسنا عما يجري في العالم كله، إن أختي التي لم تقرأ يوما كتابا عن النسوية وهي تبلغ من العمر ١٦ عاما تقدم نفسها على أنها نسوية، أعرف جيدا أنها تعيش في فضاء عام افتراضي يضعها في قلب صناعة هوية مركبة ومعقدة، وخطاب لتحقيق الذات عبر ذلك كله، وليس الحل هو أن أدعي عدم وجود العالم كله داخل شاشة هاتفها، وإنكار ما يتدفق طيلة الوقت في ذلك الهاتف، بل بالتوقف والنظر مليا فيما يطرح هناك وكيف يمكننا أن نفكر فيه معا.
