الإسراء.. من الواقع إلى المتخيَّل
القرآن.. جاء بلسان عربي مبين، وهداية للعالمين بما تدركه عقولهم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، واللسان.. ليس كلمات تلقى، وإنما بيان واضح للمتلقين، ومنطق يفهمه من أُرسِل إليهم الرسول. فكان جامع منطق الناس في الرسالة الخاتمة هو التفكر والتعقل والتدبر، ولذلك.. منع الله إرسال الآيات «المعجزات» إلى نبيه الخاتم كالتي كان يؤيد بها الأنبياء السابقين؛ فرسالتهم خاصة بأقوامهم، ومنطقهم متناسب مع بيئتهم، في حين.. أنزل الله القرآن للناس كلهم، وأسند للعقل التفكر والتدبر في الاهتداء به.
علينا أن نفرّق بين الآيات التي ذكرها الله في القرآن والأوهام التي تضاف للأنبياء، وقد شرحنا ذلك في كتاب «الإيمان بين الغيب والخرافة»، وهنا أؤكد أن للنبي آيات: أعلاها شأناً القرآن، فهذا الكتاب المبين لا يمكن أن يكون إلا من روح الله، ومنها: خصاله النفسية كالرحمة والحكمة والعزم والصبر، فلا يكاد تجد إنساناً بمثل اتصافه بها. وله آيات عملية: فلا يُعرف نبي فُتِح له في نشر دعوته مثله، فقد قضى ثلاثة عشر سنة بمكة، لاقى فيها وصحبه العنت والتكذيب، لكن عشر سنوات بالمدينة حقق فيها من نشر الدين ومواجهة المعاندين والنصر عليهم ما شمل الجزيرة العربية، وهذا لا يتأتى إلا بتأييد إلهي.
لقد ذهب الناس في «حادثة الإسراء» طرائق شتى، فمنهم مَن أنكرها، وبعضهم عدّها أسطورة، ومعظمهم اعتبرها «معجزة» خارقة لسنن الله المعتادة، تؤخذ تسليماً دون إدراكها بالعقل. وهناك من أوّل «العبد» في قول الله: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ) بأنه النبي موسى. وآخرون اعتبروا المسجد الأقصى في الحجاز. وهكذا كثرت الأقاويل؛ تزاور ذات اليمين وذات الشمال عن تدبر القرآن. وتأتي هذه المحاولة استبياناً للأمر من القرآن نفسه؛ فإن أصبتُ فذلك مبتغاي، وإن أخطأتُ فلستُ إلا بشراً.
يقول الله في «سورة الإسراء»: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)، فكيف يقرر الله امتناع إرسال «الآيات» إلى نبيه بما يخالف مطلع السورة نفسها، بحسبما يحملها المؤولون عليه؟! ويقول الله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا)، فالإسراء.. واقع بالسنن التي يدركها الناس، ليس رؤيا منام، ولا خروجاً عن السنن المعقولة. والآيات التي رآها النبي هي تمكين الله له بتطهير المسجد الأقصى من شوائب الوثنية وهيمنة الروم وإفساد بني إسرائيل.
لا أسرد حادثة الإسراء كما ترد في الأدبيات الكلاسيكية، فهي معروفة، وملخصها أن النبي أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به منه إلى السموات، وهناك التقى بالنبيين، ورجع في نفس الليلة. هذا هو الخط العام للروايات، وبها تفاصيل كثيرة مثار جدل بين المسلمين، بين تصحيح وتضعيف، إلى حد التضليل والتكفير. بيد أن هذا التصور الذي ظهرت مقدماته بعد وفاة النبي؛ نبّه معاوية بن أبي سفيان وعائشة أم المؤمنين بابتعاده عن الواقع، فقالا: بأنه رؤيا منامية. وهذا رأي لا بأس به في توجيه ما تكلم به الناس، لولا أنه أسّس لنقل الإسراء من الواقع إلى المتخيّل. وأياً كانت الآراء المطروحة فيه فهي لا تعدو كونها روايات تكتنفها الظنون. ومن ذلك.. أن كثيراً من الرواة المتقدمين يرون بأن النبي قد أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المعمور في السماء، دون أن يمرّ بالمسجد الأقصى؛ مما زاد الحادثة بعداً عن واقعها ومقصدها. وهذه الأقوال لا تحكي ما حصل للنبي الكريم؛ بحسبما يُفهم من القرآن ومنطق السيرة المحمدية.
كان النبي يعرف الشام منذ طفولته، وسافر إليها في التجارة، وقد استقرت في نفسه المنزلة الدينية للقدس، ولمّا بُعث بالنبوة تعلّق قلبه بالمسجد الأقصى تعلّقه بالمسجد الحرام، وقد أشارت «سورة البقرة» إلى تقلّب وجهه في السماء ابتغاء قِبلة يرضاها؛ ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى «قِبلة بني إسرائيل»، فاختار الله له الكعبة، رغم أن كليهما مُتَرَدَدُ النبي إبراهيم، إلا.. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، وفيه أيضاً.. استقلال عن بني إسرائيل. فالنبي محمد المبعوث بالتوحيد كان يرنو ببصيرة إيمانه إلى تطهير المسجد الأقصى سعيه لتطهير المسجد الحرام منها، كما فعل قبله إبراهيم.
بعد فتح مكة توجه النبي إلى الشام لتخليص المسجد الأقصى من الروم، وكان بعض بني إسرائيل حينها في القدس؛ منذ تمكينهم من قِبَل الفرس بعد انتصارهم على الروم، وقد أشار الله إلى انهزام الروم أمام الفرس، ثم غلبتهم، ثم وَعْدِ الله بانتصار المؤمنين بقوله: (غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). وكان خروج جيش النبي، لتحقيق هذا الوعد الإلهي، إلى الشام سراً، يسري ليلاً، ويكمن نهاراً، لكيلا ينكشف أمره للروم، فيصدّوه عن المسجد الأقصى بقواتهم الكبيرة؛ عدداً وعدة، أو يبيدوا جيشه.
كان للنبي حملتان إلى القدس، وقد أشارت إليهما «سورة الإسراء»: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً)، فقضاء الله إلى بني إسرائيل بالإفساد مرتين هو خيانتهم للنبي، فالله.. يخاطب بني إسرائيل الموجودين في زمنه، فبعد انتصار الروم وضعوا يدهم بيدهم متعاونين معهم. و«وَعْدُ أولاهما» إشارة إلى الحملة الأولى، ووَصْفُ الله (عِبَاداً لَنَا) في قبالة بني إسرائيل ينصرف إلى المؤمنين. ولبُعد المسافة ولظروف الدعوة الإسلامية ترك النبي القدس، فلعل بني إسرائيل يرعوون، ويحافظون على قدسية المسجد الأقصى، ويحولون دون تدنيسه من الروم، إلا أنهم نكثوا اغتراراً بأموالهم وعددهم. ثم سار إليهم بحملة آخرة، فنال المسلمون هذه المرة منهم، «وتبّروا ما علوا تتبيراً»، وكان ذلك مقدمة لفتح الشام كلها في عهد عمر بن الخطاب.
وليؤكد الله بأن عمل النبي ليس من جنس ما يقوم به الغزاة، وإنما هو لتنزيه المسجد الأقصى؛ افتتح السورة بـ(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ). وقد سبق التحرك نحو المسجدين رؤى للنبي بشّرته بفتحهما؛ ففي المسجد الحرام يقول الله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)، ويقول عن المسجد الأقصى في «سورة الإسراء»: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس)؛ فهي فتنة.. لاستعظامهم مسير النبي إلى القدس تحت حكم الروم؛ أكبر قوة ضاربة حينذاك.
ورغم ما أصاب السيرة النبوية من تحريف وأوهام؛ إلا أنها ذكرت غزوتين إلى الشام: مؤتة واليرموك. لكن ما حصل -ولأغراض سياسية أرجئ شرحها لوقت آخر- لم يُنسب للنبي، وجُعلت الأولى بقيادة غيره، وأخِّرت الثانية بعده، أو أن الحملتين غيرُهما لكن سُكِت عنهما. رصدت بعض المصادر غير الإسلامية المعاصرة للنبي، والقريبة من زمنه، دخوله القدس، مثل: كتاب «تعالم يعقوب»، والقس المؤرخ طوماس المعمر، والحَبر أليعازر قلير، والأسقف سيبيوس.
إن الصراع بين الأمويين ومعارِضيهم حَرَفَ مسار تدوين التاريخ الإسلامي المبكر، وأوجد عنه تأريخاً في كثير منه متخيّلاً، لا يتفق مع المعطيات القرآنية. ويكفي أن المسلمين تنازعوا حول الصخرة التي بالقدس، حتى غالى بعضهم، فقال: إن الله ينزل من السماء إلى الأرض ويصعد عليها. فلا نعجب إن وجدنا صرفاً للإسراء من الواقع إلى المتخيّل.
