حتمية زوال إسرائيل

30 يناير 2022
30 يناير 2022

مع كلّ مواجهة عسكرية بين المقاومة الفلسطينية واللبنانية مع الكيان الإسرائيلي، تُثار عبر وسائل الإعلام مسألة حتمية زوال إسرائيل، لدرجة أن يصل التفاؤل بالبعض، مثل الباحث والمفكر الفلسطيني الشيخ بسّام جرّار، إلى تحديد العام الحالي 2022 عامًا لزوال إسرائيل، اعتمادًا على ما أسماه "الإعجاز العددي" في القرآن الكريم. ورغم تأكيده أنّ هذه التنبؤات الزمنية مجرد اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، إلا أنه يجزم أنّ زوال الاحتلال سيكون أقرب ممّا يظن الجميع. وقد اعترض كثيرون على مسألة الإعجاز العددي في القرآن الكريم، مثلما اعترضوا على مسألة "الإعجاز العلمي"؛ ولكن المتأمّل لكلّ التنبؤات والتوقعات بزوال إسرائيل، قد تعتريه الشكوك، عندما يرى أنّ الكيان الإسرائيلي، في قمة قوته هذه الأيام، وأصبحت له سيطرة إقليمية ودولية سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا، وامتلك مئات القنابل الذرية والهيدروجينية والصواريخ والأقمار الصناعية، ممّا جعل بعض الدول العربية تتسابق إلى التطبيع مع الكيان، ليكون لهذه الدول الحظوة في واشنطن، ولتستفيد من التطور العلمي الإسرائيلي، الذي أصبح حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، ولتحتمي بالقوة العسكرية الإسرائيلية؛ وهي من المفارقات العجيبة، إذ المنطق يحتّم الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا وتكوين كوادر وطنية مؤهلة، وتكوين جيوش قوية بدلا من الجري وراء أوهام الاحتماء والاستفادة من إسرائيل.

وهذا في الواقع يثير الحيرة، ومن حقه أن يتساءل: كيف لإسرائيل أن تزول بهذه السرعة وهي تملك من أدوات السياسة والقوة والعلم ما تملك؟! وبالتأكيد فإنّ السؤال في محله، ولكن الإجابة السهلة على السؤال - دون الدخول في فلسفات - هي أنّ الكيان الإسرائيلي لم يقو إلا بضعف العرب، الذين حباهم الله كلّ شيء، لكنهم فرّطوا في كلّ شيء، حتى أصبح البترول نقمة عليهم وليس نعمة، لا يملكون حتى تحديد سعره؛ فغابت الأمة عن العلم والتكنولوجيا والإبداع والابتكار، وأصبحت مستهلِكة لما يأتيها من الخارج، مع وجود بعض قشور الحضارة كالبنايات وغيرها، وهو عكس ما فعله الكيان الإسرائيلي الذي يشار إليه بالبنان.

هذه الأيام أثيرت مسألة زوال إسرائيل من جديد وبقوة. وهو ما أشار إليه الكاتب الفلسطيني زهير حليم أندراوس في مقاله في موقع "رأي اليوم" تحت عنوان "زوال إسرائيل.. حقيقةٌ أمْ وهمٌ" أنّه منذ عدّة سنوات يقوم الكيان سنويًا بنشر قائمة التهديدات التي تُواجِهه، ويلفت إلى أنّ إيران تتبوّأ المكان الأوّل باعتبارها تهديدًا إستراتيجيًا وجوديًا على الدولة العبريّة، يليها حزب الله اللبنانيّ، فيما تحِّل حركة حماس في المكان الثالث. ويشير أندراوس أنّ التهديد الإيراني وحزب الله وحماس للكيان ليس هو التهديد الوحيد، فـ "الصهاينة، خلافًا للفلسطينيين، لا يعرِفون المعنى الحقيقيّ للانتماء للأرض، لأنّه عميقًا في العقل الباطنيّ، يؤمنون بأنّ الأرض التي سلبوها وشرّدوا شعبها، ليست لهم، وأنّهم عمليًا حالةٌ طارِئةٌ في فلسطين"، وهو محقٌ في رأيه هذا، لأنّ مسألة الانتماء هي مسألة جوهرية وأساسية للبقاء. لذا فإنّ إسرائيل تعتبر أنّ العدوّ الحقيقيّ لها، هم عرب الـ 48، أيْ الفلسطينيون الذين يسكنون داخل ما يُطلَق عليه الخّط الأخضر، والذين وصل عددهم إلى أكثر من مليون و600 ألف. وهذه الأقليّة "الأصلانيّة" - حسب اندراوس - تُعتبَر بنظر صُنّاع القرار في تل أبيب مشكلةً عويصةً من الناحية الأمنيّة، وبرزت "خطورة" فلسطينيي الداخل في العدوان الأخير ضدّ قطاع غزّة في مايو الماضي، إذْ أنّه خلافًا للتوقعّات الصهيونيّة هبّ العرب الفلسطينيون في الداخل المُحتّل تأييدًا لإخوانهم في قطاع غزّة.. هذه الهبّة اعتُبرت من قبل الصهاينة علامةً فارِقةً في العلاقات بين فلسطينيي الداخل وبين "دولتهم".

من الواقع يبدو أنّ زوال إسرائيل هو من الأمنيات البعيدة التحقق؛ فهي لن تزول اليوم أو غدًا أو هذا العام - كما تنبأ الشيخ بسًام جرّار - لكنها حتمًا ستزول، وذلك يحتاج إلى الأخذ بالأسباب والعمل، وعدم الركون إلى الأوهام؛ فدينُنا يأمرنا أن نتّخذ الأسباب وأن نعدّ للعدو العدّة: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}. ومن اتخاذ الأسباب أيضًا ليس الاهتمام بالقوة العسكرية فقط - رغم أنها الأساس - وإنّما في مسايرة العصر، بالاهتمام بالعلم والتكنولوجيا والصناعة؛ ومن هنا نستطيع أن نعرف لماذا يركز الكيان الإسرائيلي على إيران وحزب الله وحماس كخطر استراتيجي عليه، لأنهم اتخذوا أسباب القوة. ولنا أن نتصور ماذا لو كان لدى العرب تعليمٌ جيد، وتقدمٌ اقتصاديّ وصناعيّ، ومراكز أبحاث، وإنتاج غزير في المعرفة؟ ماذا لو كان المواطن العربي يتنفس عبير الحرية في حياته اليومية، بعيدًا عن الديكتاتوريات الجاثمة على رؤوس الناس؟

إنّ أكثر ما يقلق إسرائيل هو المقاومة. ولنا أن نقارن بين قوة الفلسطينيين سابقًا وحاليًا، بعد اتفاقيات أوسلو، التي أنهت العنف الثوري، ونشأ عنها ما عُرف بسلام الشجعان، الذي لم ولن يتحقق، وكيف أصبحت إسرائيل شبه آمنة بعد إلقاء السلاح الفلسطيني جانبًا؟

أذكر نقاشًا جرى في نهاية الثمانينات بيني وبين المخرج الإذاعي عبد الله بن أحمد الصلتي، وكنا زملاء في العمل، عن برنامج الرئيس ميخائيل جورباتشوف رئيس الاتحاد السوفييتي، عن إعادة الهيكلة الذي أسماه "البيريسترويكا"، وكان حديث وسائل الإعلام حينها، وما صاحبها من سياسة الشفافية التي سمّاها بـ "غلاسنوست"؛ فقال الصلتي أرى أنّ الاتحاد السوفييتي سينهار على يدي هذا الرجل. وقتها لم يكن أحدٌ يصدّق نبوءة كهذه، لكن ما هي إلا فترة بسيطة وانهار الاتحاد السوفييتي، الذي كان أقوى من إسرائيل. وهذا ما حصل ليوغوسلافيا أيضًا، وسيحصل مع إسرائيل. المهم لقد ظلّ اسم الاتحاد السوفييتي في ذهني مرتبطًا بنبوءة عبد الله الصلتي.

زوال إسرائيل هو حقيقة حتمية يعلمها صناع القرار في الكيان الإسرائيلي قبل غيرهم. قد يطول الوقت أو يقصر، لكن ذلك لا يلغي حتمية الزوال، ولا يلغي أهمية اتخاذ الأسباب وترك الأمنيات جانبًا؛ فالزوال لن يتم هكذا من تلقاء نفسه دون كفاح وعمل ومقاومة، وإلا فإنّ هذا من التواكل.

• زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب "الطريق إلى القدس"