تهافت الأصنام حين تُحْمَدُ المعارك

30 يناير 2022
30 يناير 2022

ليست كل المعارك شرّا بالضرورة، أو صراعا بين الخير والشر. بعض المعارك محمودة فيما تترك من أثر وبما تصنع من تغيير، فكيف إن كانت تلك المعارك بين فريقين يحمل كل منهما مخزونا معرفيا ثقافيا؟! اختلافا يُبنى مع خصم نبيل يحمل ذات المخزون المعرفي الثقافي على اختلاف مشارب الفريقين؛ تلك هي المعارك الفكرية الثقافية التي يفتقدها متلقي الثقافة في مجتمعاتنا اليوم؛ لذلك لا نجد للثقافة والمثقفين أثرا يُلمس في واقع الحياة وصراعاتها.

معارك خالدة قَدّمت عالميا وعربيا تغذيةً معرفيّةً لمتلقيها ومعاصرها؛ متنقلا بين أطروحات هذا الفريق، وأفكار فريق مختلف. وطالما كانت المقالات مادة لتلك المعارك الأثيرة وتلك التصادمات المرتقبة.

أقول هذا مستحضرة نشأة فن المقالة أصلا حينما بدأ في فرنسا وسيلة لتغيير المجتمعات عبر تضمين موضوعات تربوية، أخلاقية واجتماعية، مرورا بمقالات الإصلاح والتغيير سعيا لتطوير وتنمية المجتمعات علميا واجتماعيا و اقتصاديا. ولأهمية هذا الفن تعهده المثقفون والفلاسفة والمتعلمون في العالم بالعناية متلمسين خطورة خيانتهم واجبهم في نشر الوعي وتعميق المعرفة، مع ضرورة تجاوز مرحلة الفهم للتغيير كما يقول ماركس "لم يفعل الفلاسفة إلى اليوم سوى محاولة فهم العالم، بينما ما يجب أن يحدث هو تغييره" وأحسبنا - آسفة - نعود لمرحلة الفهم واستغراقنا فيه دون حراك نحو التغيير.

نفتقد اليوم تلك المعارك أثرا ثقافيا موثقا لعصر من تدافعات فكرية ثرّة، مهما كان من تطرف طرحها أو احتدام جذوتها. أما المعارك المضمرة والمقنّعة بين أنصاف المثقفين أو متلبسي الثقافة فنعرفها ونلمسها، وقد يجني خلالها هؤلاء أو أولئك منافع وقتية أو انتصارات شخصية، لكنها يقينا لن تقدم شيئا للفكر، ولن تغيّر شيئا في المجتمع، بل الخوف كل الخوف أن تُحدِثَ شرخا فكريا وتقهقرا اجتماعيا.

حينما كانت المقالات سجالات فكرية ثقافية كبرى، تشكّل متابعوها من كتاب ومثقفين وقرّاء إلى ضفتين أو أكثر (إن افترضنا ضفة الحياد أو الـ "بين بين") هذه المتابعة والقراءة كانت وقودا يذكي طاقات المعركة الفكرية بمختلف أركانها، ويحفز المتابع للقادم من يومياتها كما يدفعه للبحث تاريخيا وفكريا وعلميا عن حجج لنصرة فريقه هنا أو تثبيت أركانه هناك.

لعلّ من أشهرها عربيا سجالات كتّاب عصر النهضة في مصر، أدبية كانت أم فكرية عامة. كل تلك السجالات نشطت الصحافة ونوّعت طرح الصحف بكل تأكيد، كما أنها كانت مادة للنقاش التفاعلي في المقاهي الثقافية أو التجمعات الأدبية، ورغم العقود التي تفصلنا عن أوانها إلا أنها حاضرة بمادتها من مقالات وقصائد ومؤلفات تدعم حجة هذا الفريق أو تدحض حجة الخصم "فكريا".

فهل تخفى معارك مثل معركة شوقي والعقاد حول تنصيب شوقي أميرا للشعر العربي، أو معركة أحمد أمين وزكي مبارك حول الأدب الجاهلي، ومثلها معركة الرصافي والزهاوي في العراق.

تركت هذه السجالات المحمودة (مهما علت وتيرة اختلاف أصحابها) أثرا على متابعيها من أجيال تلتها لتنشأ معارك جديدة حول"التغريب" أو "تحرير المرأة" أو "قصيدة النثر والحداثة" كما تركت خزينة من مؤلفات توثق ذلك الاختلاف وتلك المرحلة.

كل هذه السجالات الفكرية في معارك ظاهرة لا تتخفى بأقنعة تزيّف واقعها، ولا تتمسّح بقضايا تخفي حقيقتها. ومع هذا الوضوح كانت فائدة المتلقي من موازنة يصنعها بين الفريقين فيقرر رأيه الخاص أو حتى يكتفي بتغذية فكره باختلاف يصنع معه ملكته في التمييز وقدرته على النقد، فما بالنا اليوم نعيش واقع تهافت الأقنعة وتخفي الوجوه بين متسلّق لا يليق به الضوء، ومهرّج لم يدرك انتهاء العرض؟!

لا بد من جهود منتظمة نحو كشف هؤلاء "الكهنة" كما يصفهم الكاتب الفرنسي جوليان بندا عام 1927في كتابه "خيانة المثقفين" إذ أنهم وجدوا صمت الأغلبية ميدانا لأصواتهم النشاز، فأخذهم الظن إلى أنهم أكبر من الانكشاف، وأسمى من السقوط.

ترى إلى أين تمضي بنا هذه المرحلة؟ وما الذي سيبقى منها توثيقا فكريا أو أدبيا؟ وهي مرحلة يتسم واقعها عموما بالتباس غموضها بالحقيقة، كما تتسم باستنزافها المادي الاستهلاكي لكل ما هو قيمي فكري بل إنساني عام.

لا بد من وعي تنهض معه أجيال بالمعرفة لتميّز الغثّ من السمين، لترى بعين بصيرتها -مهما اتسعت وسائل هذا العالم الافتراضي المفتوح على مصراعيه- لتنأى عن صغائر هذا الواقعِ المُلْبِس بصغاره المتسلقين، ولننظر بعين المتنبي لعظائم لا تنهض الأوطان إلا بها ولا تسمو إلا معها:

"وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ"

ومع كل سلبيات المرحلة إلا أنها مرحلة الانكشاف، ولا بد من إسهامنا جميعا في تعزيز ذلك الانكشاف غبَشَا مؤقتا تنجلي بعده الحقيقة، ويعاد ترتيب الرؤى واقعا مأمولا نستشرفه ونترقبه ونعيشه ولو بعد حين.

حِصَّة البادي كاتبة وأكاديمية عمانية