الإعلام جوهر التنمية
تعكس التنمية الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للأفراد والمجتمعات بهدف ازدهارها ورفاهيتها، ولهذا فإن هذه القطاعات بما تمثله من مجالات وتنوعات تشغل الحيِّز الأكبر من أهداف النمو والاستدامة في الخطط الإنمائية للدول. إلاَّ أن العالم لا يغفل دور الإعلام في المجتمعات بوصفه أحد أهم مرتكزات التنمية، والذي يُعوَّل عليه في بناء نطاق واسع للاستدامة وشامل للأنشطة الإنمائية. لقد قدّم مركز (هردو لدعم التعبير الرقمي) في القاهرة، إصدارا بعنوان (الإعلام الإنمائي على أجندة العالم للتنمية المستدامة)، عرض خلاله دور الإعلام في تحقيق الأهداف الإنمائية باعتباره (جوهر التنمية) وقلبها، الذي يؤدي أدوارا أساسية في تحسين نشر المعلومات وتعزيز الجهود الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية الوطنية من خلال التفاعل مع المجتمع؛ فالإعلام الإنمائي يُعتمد عليه في تطوير المجتمع وتنميته. يُعرَّف الإعلام الإنمائي ـ بحسب مركز هردو ـ بأنه « العملية التي يمكن من خلالها توجيه أجهزة الإعلام ووسائل التواصل الجماهيري داخل المجتمع بما يتفق مع أهداف الحركة التنموية ومصلحة المجتمع العليا»، ولهذا فإن الرسالة التي يحملها هذا الإعلام تتمثل في تهيئة الظروف الاجتماعية والثقافية للأفراد والمجتمعات (من أجل أن يستجيبوا للخطط والبرامج التنموية بشكل فاعل)، فهو إعلام واقعي يحمل على عاتقه (تحقيق غايات اجتماعية تنموية). ولأن سلطنة عُمان من الدول التي أسسَّت منظومة إعلامية رصينة هدفها دعم التنمية الوطنية للدولة، وتهيئة المجتمع للعمل على تحقيق الأهداف والرؤى التنموية، فإن هذه المنظومة اليوم تقوم بأدوار تنموية متوازنة تجعل من المصلحة التنموية الوطنية الهدف الأسمى في التعامل مع الأحداث والظروف. ولعل ما يقوم به الإعلام بوسائله المتعددة من أدوار، خاصة خلال الظروف المناخية الاستثنائية أو ما يقدمه خلال الأزمات الصحية سيما الأزمة الحالية، إضافة إلى التهيئة المجتمعية والتوعية للأهداف التنموية لرؤية عُمان 2040، والخطط الإنمائية ومناقشتها بالشراكة مع المؤسسات المعنية والمجتمع، دليل على تلك الأدوار التنموية؛ فهو عامل مهم من عوامل التطور والنمو المجتمعي، الذي يقوم على مبدأ الشراكة المجتمعية في تحقيق الأهداف. ولهذا فإن الإعلام باعتباره منظومة متكاملة يُعد جزءا من الرؤية التنموية للحكومة الرشيدة التي تسعى إلى تطوير أدواته وآلياته بما يتناسب والتطور العالمي وانفتاح الآفاق الإعلامية من ناحية، ويتواءم مع الواقع العماني ومعطياته الحضارية والإنسانية من ناحية أخرى، وبما يعزز الثقة والمصداقية بينه وبين جمهوره وآراءه واحتياجاته من ناحية أخرى. الأمر الذي جعله (مرتبط) بالتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للدولة، و(متكامل) مع متطلبات أفراد المجتمع واحتياجاتهم. والحال أننا لا نريد هنا استعراض ما تقوم به المنظومة الإعلامية في عُمان ـ على أهمية ذلك ـ بقدر ما نود إبراز أهمية هذه المنظومة الإنمائية ودورها في تحقيق أهداف التنمية في ظل تعاظم التحديات والإشكالات التي تواجه قطاع مهم فيها، وهو ما يُسمى بـ (الإعلام الجديد)؛ الذي بدأ يقدم إعلاما رقميا عبر وسائل إلكترونية حديثة، عملت على بث المحتويات الإعلامية والثقافية مستفيدة من الثورة الرقمية الضخمة؛ فعلى الرغم من أن هذا الإعلام قد قدّم فرص التفاعل الاجتماعي من خلال الوسائل الإلكترونية المتاحة، وأهميته في دعم مسيرة التطور الإعلامي، إلاَّ أنه يطرح إشكالا مهما بشأن قدرته على التفاعل بموضوعية وواقعية مع القضايا التنموية في الدولة. في تقرير (تطوير وسائل الإعلام)، قدَّمت الرابطة العالمية للاتصالات في كندا، محاولة للإجابة عن ذلك التساؤل انطلاقا من مناقشة (الثقافة الرقمية، والمحتوى الرقمي)، وبناء على مجموعة من المعطيات المتعلقة بالتنمية البشرية ودور وسائل الإعلام التنموية، فإنه تحت عنوان (أصوات عديدة وعالم واحد)، قدَّم الخبراء مجموعة من التحليلات المعتمدة على (التركيز المفرط لوسائل الإعلام)، و(استغلال وسائل الإعلام)، و(الاتصال غير المتكافئ)، والتي تكشف ما يُسمى بـ (اقتصاد الانتباه)؛ وهو ما يتمثل في استثمار بيانات المستخدمين، بحيث يصبحون هم أنفسهم مُنتَجا. هكذا ستكون وسائل التواصل الاجتماعي منفذا واسعا للإعلام الرقمي، حيث تتنافس خلالها الأصوات المختلفة لتكون مسموعة، فـ (تميل الخوارزميات إلى تفضيل الشعبية على مختلف الأصوات) ـ بحسب التقرير ـ، حتى تدفعهم إلى (فقاعات التصفية). ذلك كله يدفع إلى تداول محتويات شخصية غالبا، وبعيدة عن الموضوعية، الأمر الذي يجعل من هذا الإعلام غير قادر على المصداقية مع الجمهور، وبالتالي غير واع للأهمية التنموية التي تأسس عليها الإعلام. إن وسائل التواصل الاجتماعي تشكل اليوم قدرة اقتصادية هائلة، حيث تحتكرها مجموعة من الشركات العالمية تحصد منها المليارات سنويا، وهي التي تحدد وفق أيديولوجيا معينة آفاق التعامل وحدود النشر. الأمر الذي يجعل منها منصات مفتوحة تقوم على المنطق التجاري لا الإعلامي، فعلى الرغم من كونها فضاء رحبا لحرية التعبير والفكر المفتوح، غير أنها تمنح مجالا لـ (تدفق المعلومات في العالم)، وهي معلومات ذات أبعاد أيديولوجية تثير الكثير من الإشكالات التي تندرج غالبا ضمن ما يُطلق عليه (الأخبار الكاذبة). إن الإعلام الإنمائي بوصفه (تشاركيا) لا يمكن أن يتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي أو أيٍّ من تلك الوسائل الإلكترونية المفتوحة ما لم يكن لدى المستخدمين قدرة على فهم آفاق هذا النوع من الإعلام، والرؤى التنموية للدولة، ولهذا فإن أهمية هذه المنصات ستتحدد متى ما تمكَّن الفرد من التعامل معها بوصفها وسيلة إعلامية تقود إلى التغيير التنموي الوطني لا الفردي، وتقدم فضاءً للحوار البنَّاء الفاعل الذي يُسهم في دعم الأهداف الوطنية، فالتطور الهائل الذي تشهده هذه المنصات سيكون تطورا على مستوى الإعلام الإنمائي عندما يكون قادرا على التعامل مع (العالم الحقيقي) بدلا من (الحقيقة الافتراضية) ـ باصطلاح آسا بريغز في (تاريخ اجتماعي لوسائط التواصل) ـ. ولعل الإشكالات التي تواجه وسائل التواصل الاجتماعي في تعاملها مع المستخدمين والجمهور هي أنها بدأت باعتبارها فضاءً اجتماعيا شخصيا وتوسعت حتى أصبحت فضاء إعلاميا تستقي منه العديد من وسائل الإعلام الأساسية (التلفاز والإذاعة والصحف) أخبارها وتحليلاتها، الأمر الذي رسَّخ أهمية هذه الوسائل إعلاميا، حتى أصبحت منافسا إعلاميا لا يُستهان به؛ فعلى الرغم من الانتقادات الدولية التي تنهال على تلك المنصات، واضطرار بعض الدول إلى حجبها خوفا على هويتها الوطنية، إلاَّ أنها ما زالت تحظى بالإقبال المتتابع من قِبل ملايين المستخدمين الذين تحولوا إلى (مشاهير) و(إعلامين)، الأمر الذي دفع الدول إلى إعداد تشريعات وسياسات تسهم في تنظيم تداول المعلومات والأخبار في هذه المنصات. إن الإعلام الإنمائي اليوم يواجه الكثير من التحديات في ظل التوسع التجاري المؤدلج لوسائل التواصل الاجتماعي والمنصات التفاعلية التي تجعل مهمته أكثر صعوبة؛ ففي حين اعتماده على (نقل المعلومة والخبر ونشر الآراء بشكل موضوعي، وإعداد التحليلات) ـ بحسب مركز هردو ـ، فإن وسائل التواصل الاجتماعي مفتوحة للآراء الفردية، التي تجعل من (الحقيقية الافتراضية) واقعا حقيقيا. ولهذا فإن على الإعلام اليوم مسؤولية مضاعفة في ترسيخ المفاهيم التنموية النابعة من تحديات المجتمع وحاجاتهم، ليكون الموضوع التنموي والأهداف الوطنية العليا جزء من الوعي المجتمعي. ولأن الإعلام في عُمان يتصف بالإنمائية والمهنية فإن تمكينه وتعظيم دوره التنموي، سيجعله قادر على الاستمرار بإبداع للقيام بأدواره المتعلقة بالتنمية البشرية، والتطوير المجتمعي، والتغيير الحضاري للمجتمع بما يتواءم مع الرؤى والطموحات الوطنية لأجيال المستقبل، والتطورات التقنية والرقمية في العالم، لتستطيع منظومة الإعلام الإنمائي القيام بدورها الذي يُعزز أدوار القطاعات التنموية الأخرى ويدعمها. |
