مقال: أسوأ شخص في العالم
ليس الاحتفاء وحده هو الذي يجعل فيلم the worst person in the world -الذي صدر عام 2021 ومازال يطوف في مهرجانات السينما العالمية حاصدا الجوائز- دافعي الوحيد لمشاهدته، بل اهتمامي الشخصي بالمخرج والكاتب النرويجي يواكيم ترير الذي تعلقتُ بإنتاجه منذ مشاهدتي لفيلمه العذب: (2011) Oslo، August 31st والذي شاهدتُ بعده فيلمه الآخر المرعب والذي أثر عليّ لأيام بعد مشاهدته Thelma (2017). والذي نافس حول الأوسكار في فرع الأفلام بلغة أجنبية في سنة إنتاجه.
يعتبر فيلم "أسوأ شخص في العالم" بمثابة أنشودة عن طابع الحياة الذي يعيشه أبناء عشرينيات هذا الجيل تحديدا، إذ يتقصى الرغبة المستعرة لمعرفة الذات، والانجراف في الحياة وعدم معرفة ما نريده بالفعل، إذ نتوخى طيلة الوقت تصورا عما يمكن أن نعده وصولا وتحقيقا للذات، أسئلتنا تكاد تكون مختلفة بل ومضادة في غالب الأحيان لما اعتبر لفترة طويلة من الزمن مسلما به وبديهيا، على سبيل المثال كان الجيل الذي يسبق هذا الجيل ميّالا أكثر للاستقرار في العمل، والحصول على وظيفة ثابتة فيما تظهر العديد من الدراسات الحديثة حتى التي أجري بعضها في الخليج العربي أن أكثر ما يخيف الشباب اليوم هو الاستمرار في وظيفة واحدة لفترة طويلة من الزمن، وهنالك حالة جاذبية خاصة في اختبار تجارب عمل جديدة، بل وشعور بالرضا لا يتحقق إلا بالحصول على عروض عمل مختلفة بين الحين والآخر. فيعتبر هذا مؤشرا على الاحترافية في العمل والتميز، الذي هو جزء من الاعتبار الذي يحصل عليه الكثيرون لذواتهم.
ما أريد قوله أننا ربما نسأل أسئلة مختلفة قليلا في كل مواقف الحياة العادية، فلم تعد العلاقة الآمنة بالشريك كافية مثلا ما لم نكن سعداء بالفعل، حتى وإن كنا مرتبكين إزاء تعريف مفهوم السعادة، إن شعورنا بنقصان شيء ما في هذه الشراكة حتى وان لم نسميه كافيا لكي نتخلى عنها، متخيلين أننا سنبحث في مكان آخر عن هذا الشيء، كل شيء بالغ السيولة، أحد النقاد يقول عن هذا الفيلم إنه دراما عن الحب، عن أشخاص يمقتون دراما الحب، ولقد أثار هذا الوصف اهتمامي بصورة كبيرة، إذ أن هنالك -وبالفعل عند هذا الجيل من خلال انتمائي له- ازدراء للعواطف الكبيرة والمعبر عنها لصالح التصرف بعملية، لصالح الشخصية الساخرة الهزلية غير المبالية، بدلا من الاهتمام الزائد أو الثقة بالرغبة وما ستذهب إليه.
يوليا بطلة هذا الفيلم تحصل على درجات عالية تدخلها كلية الطب لكن سرعان ما تكتشف أنها لا تستطيع الاستمرار في دراسته لأنها غير مهتمة إطلاقا بهذا التخصص، تشتعل الرغبة مجددا عندما تحس أنها تريد التخصص في علم النفس لأنها وعلى حد تعبيرها مهتمة بـ"العقل" أكثر من الجسد، سرعان ما تخفت هذه الرغبة لأنها وفي خضم دراسة علم النفس كانت طوال الوقت تسأل: " متى ستبدأ الدراسة المركزة والعميقة بالفعل؟" إنها سؤال موازٍ لسردية أكبر يتبناها هذا الجيل وهو "متى ستبدأ الحياة بالفعل؟" إذ تبدو الأشياء عن قرب باهتة، ولا تشبه توقعاتنا وتصوراتنا عنها. مع العلاقات العاطفية تمتثل يوليا النمط نفسه مع تخصصها الدراسي، إذ تنتقل في أكثر من علاقة، وفي كل مرة تظن أنها في العلاقة المنشودة. إن هذا الفيلم ببساطة يجمع بين الأسئلة الكبيرة التي تؤرقنا للغاية والتفاصيل الصغيرة والحية التي نعيشها مع الآخر في يوم عادي جدا.
يوليا ليست ملتزمة إلا بنفسها، إنها نموذج الإنسان النرجسي الحديث المستغرق في ذاته، إنها تجسيد لفلسفة بيونغ تشول هان الفيلسوف الكوري الجنوبي، الذي يطرح أسئلة عديدة من بينها سر انحسار الحب، لماذا تفشل علاقاتنا اليوم، وهو بذلك يجادل معاصرته ايفا ايلوزا التي نظرّت عن الحب أيضا في كتبها التي ترجمت للعربية حديثا مثل "لماذا يجرح الحب؟" "وحميميات باردة : الحب والرأسمالية." إذ تذهب ايلوزا إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في الوفرة وكثرة الخيارات ما يجعلنا مترددين وغير صبورين لمواجهة أي مشكلة تواجهها العلاقة، ونجد من السهولة بما كان الانتقال لمكان آخر لعلاقة أخرى، يجد بيونغ شول هان أن المشكلة ليست في الوفرة بقدر اختفاء "الآخرية" تماما، إذ أننا حتى وفي العلاقات التي نخوضها، يختفي الآخر، إننا منغمسون في ذواتنا، ولا نبحث عن الآخر وعندما نقترب منه نبحث عن انعكاسنا فيه، لا نتشابك معه، وبذلك تفقد تجربة الحب، طابع التجربة الوجودية، التي يكون فيها الآخر سلبيا بالمعنى الهيجلي لذلك.
ميج شيلدز في نقده للشخصية في الفيلم يقول: إن الشخصية تبحث عن الحياة غير مدركة أن الحياة كانت تحدث طوال الوقت بالفعل. ومع ذلك يقدم لنا مفارقة ساحرة ربما لا يستطيع شيء آخر سوى الفن تقديمها وهو "أن أسوأ شخص في العالم" تمكنت من رسم صورة من عدم اليقين الأليفة والتي تبدو أكثر إخلاصا وتأكيدا للحياة أفضل بكثير من أقرانها. الفيلم قُسم لاثني عشر فصلا وأتاحت الطبيعة المتقطعة للفيلم حدوث تحولات مفاجئة لكن غير متناقضة في المزاج العام، مع شعورنا في الفصول الأخيرة بحالة من السكون التي تجتاح يوليا، وقد يبدو ذلك جيدا، إلا أن هذه الوتيرة قد تعني فقدان بعض الحماس النابض بالحياة، والذي يلازم البطلة الشابة منذ البداية، مثلما يحدث معنا في حياتنا الواقعية. كانت يوليا طيلة الوقت تشعر أنها تفتقر للضمانات التي تشكلان شخصا صالحا، هي ليست أسوأ شخص في العالم بطبيعة الحال لكنها تشعر أنها فشلت في العثور على إحساسها بالشخصية والمكان في عالم يتطلب مثل هذه الوثوقية. هو فيلم عاطفي أشبه بدراسة شخصية حميمية توازن بين انتقاداتها وولعها بالحياة.
إنني بكل تأكيد أرشحُ مشاهدة هذا الفيلم بعيدا عن كل هذه الأحكام، سيجتاحك سكون أنت الآخر بعد مشاهدته ولا أشك في ذلك، لأنك وإن كنت من هذا الجيل سترى نفسك هناك، وستضحك وتبكي مع يوليا كثيرا.
