قيم اللامركزية في صناعة الثقافة
"اللامركزية، هي أساس الإدارة الرشيدة (الحوكمة)، التي تدعم وتصون رفاه السُكَّان، وتقوم على توسيع قدراتهم وحرياتهم وخياراتهم وفرصهم في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية". بهذا يحاول المعهد العربي للتخطيط في الكويت في إصداره (اللامركزية وإدارة المحليات. تجارب عربية ودولية) ـ دورية جسر التنمية عدد 119ـ الإجابة عن السؤال (لماذا اللامركزية في المحليات؟).
فلقد اتخذت العديد من الدول في العالم نظام (اللامركزية الإدارية)؛ لما تمثله من أهمية باعتبارها (أداة من أدوات الإصلاح الإداري)؛ وبحسب المعهد العربي فإن اللامركزية "تمكِّن المواطن في أي مجتمع محلي من المشاركة الفاعلة والحقيقية في إدارة الشؤون العامة المحلية لمجتمعه لضمان تقديم الخدمات، وتأكيد مبدأ الكفاءة والمساءلة كقيمة من قيم اللامركزية". ولهذا فإن هذا النظام لا يرتبط بخصوصية المجتمعات المحلية في المحافظات وحسب، بل إنه أيضا يعني (سرعة إنجاز العمل، واختيار القرار السليم)، وبالتالي فإنه يُسهم في رفع كفاءة الإدارة المحلية، وبالتالي رفع مستوى الخدمات وصناعة القرار التنموي.
ولهذا فإن سلطنة عُمان في رؤيتها 2040 جعلت من (تنمية المحافظات والمدن المستدامة) أولوية لتوجه استراتيجي يهدف إلى (تنمية شاملة جغرافيا تتبع نهجا لا مركزيا...)، فهذه التنمية الشاملة على مستوى السلطنة بتنوعها الجغرافي تعبّر عن وعي تنموي يتجاوز المركزية الإدارية إلى مستوى يعبر عن مدى تطور المجتمع بعد خمسين عاما من التنمية الحديثة في شتي المجالات، ليكون قادرا على المشاركة بفاعلية في صناعة القرارات وإدارة الموارد الطبيعية المحافظة وما تتميز به من ثقافة وتراث وقدرات إبداعية، بما يُسهم في الاستثمار الأمثل لتلك الموارد.
إن المتأمِّل في أهداف هذه الأولوية سيجد أنها شملت الميزة النسبية والتنافسية، والمجتمعات الممكَّنة، ونظام تسلسل هرمي مستدام للتجمعات السكانية، ومناطق حضرية وريفية وتراث طبيعي وثقافي يتميز بالمرونة، ومدن ذكية مستدامة، وريف حيوي بجودة عمرانية عالية، ووسائل نقل متنوعة ومتكاملة مع التنمية العمرانية. وهي أهداف ذات أبعاد تنموية متكاملة، تجعل من مبادئ اللامركزية قاعدة أساسية للتخطيط، واتخاذ القرارات المناسبة لكل بيئة محلية على حدة، بناءً على المعطيات التنموية والموارد المحلية، مما يجعل من تنمية تلك المجتمعات أكثر مرونة وقدرة على التطور المتوازن الذي يجمع بين أصالتها وتفردها الثقافي من ناحية، ويعزِّز من مبادئ الابتكار والتطوير والإبداع في (بناء المنظومة المحلية) من ناحية أخرى.
والحق أن عُمان في نهضتها المتجددة عندما بدأت تطبيق اللامركزية الإدارية للمحافظات، هدفت إلى (تعزيز الإنتاجية وتحفير الابتكار وتنويع مصادر الاقتصاد والنمو)، الأمر الذي يعني تطوير المنظومة المحلية بما يدعم القيمة المضافة لإنتاجية القطاعات المحلية في المحافظات، ويعزز من فرص العمل للشباب خاصة في مجال الوظائف الإبداعية، التي تعتبر من أهم مجالات التوظيف في السنوات المقبلة، لارتباطها بالتقنية والابتكار والموارد الثقافية. إن هذا التوجه الرشيد في الإدارة يدعم تدفق المعلومات والبيانات المحلية اللازمة لصناعة القرارات التنموية المتعلقة بالمحافظات، وبالتالي الاستفادة من المعطيات المحلية في بناء منظومة إبداعية قادرة على فتح آفاق تنموية أرحب.
إن اللامركزية الإدارية التي تمنحها الدولة للمحافظات تقدم فرصا تنموية، ليس على المستوى الجغرافي (المحافظة/ الولاية) وحسب، بل أيضا على مستوى الأفراد؛ ذلك لأنها تمنحهم دعما لتوسيع نطاق قدراتهم وخياراتهم وبالتالي فرصهم للاستثمار والعمل في المجالات المختلفة، إضافة إلى ما تقدمه من دعم للحريات، وفتح مجالا أرحب لإشراك المجتمع المدني والقطاعات العامة والخاصة، مما يعزز الوعي بأهمية دور هؤلاء الشركاء في التنمية المحلية في المحافظات، وبالتالي قدرتهم على دعم صناعة القرارات التنموية.
نشرت الجمعية الألمانية للتعاون الدولي (Giz) تقريرا بشأن خطة عام 2030 تلبي العمل المناخي في المناطق الحضرية بعنوان (مشروع تحدي المدن 2030. كيف تُسهم المشاريع الصغيرة على المستوى المحلي في تحقيق الأهداف الكبيرة على المستوى العالمي)، وهو تقرير يكشف إمكانات الدول في التخطيط للتنمية المستدامة وقدرتها على تفعيل دور المناطق الحضرية والريفية، وذلك بدمج التنمية الحضرية والعمل المناخي من ناحية، والابتكار وزيادة التأثير والرقمنة من ناحية أخرى. إن هذا التقرير يربط التطور الحضري بقدرة تلك المناطق على إدارة شؤونها واتخاذ القرارات بناء على المعطيات المتوفرة والبيانات الإحصائية والموارد المحلية التي يمكن استثمارها والعمل على تنميتها.
يركِّز هذا التقرير على مشروع (تحدي المدن 2030)؛ وهو مشروع طموح يهدف إلى التنمية الحضرية والريفية المراعية للمناخ والموارد المتوفرة في البيئات المحلية، ولهذا فإن العمل في هذه البيئات يتعلق بقدرة أفرادها على التخطيط، وإمكاناتهم للعمل وفق شراكة مجتمعية قادرة على تغليب مصلحة المجتمع المحلي على المصلحة الشخصية، إضافة إلى توفر السياسات الداعمة والميسِّرة. ولهذا فإن هذا التحدي لا يُعنى إقامة مدينة حديثة في الريف بقدر ما يهدف إلى تمكين البيئة المحلية، وتعزيز مواردها الطبيعية والثقافية وتعظيمها، بما يتناسب مع مناخها من ناحية آفاقها المستقبلية من ناحية أخرى.
إن تمكين المجتمعات المحلية وتطويرها يهدف إلى تعزيز مواردها المحلية، وتطوير نهج الاستثمار فيها بما يعظِّم قيمتها المضافة اجتماعيا واقتصاديا، ولهذا فإن اللامركزية الإدارية تُعد من السياسات الحكيمة التي تدفع المجتمعات إلى التعاضد والمشاركة، وتعزز قيم المواطنة، وتفتح أمام الأفراد والمؤسسات على حد سواء فرص لا حد لها من المساهمة في التنمية الوطنية؛ فهذا النظام الإداري يمكِّن الشباب من الإبداع والابتكار على نطاق واسع إذا ما سُهِّلت لهم السياسات والتشريعات والإجراءات، لتشكِّل المشروعات الإبداعية الصغيرة، والابتكارات المحلية إسهاما كبيرا في التنمية المستدامة التي تنشدها الدولة في العقود القادمة.
ولعل أهمية اللامركزية الإدارية بتوازنها وقدرتها التنموية، تفتح الطريق أمام التنمية الثقافية والسياحية بشكل خاص؛ ذلك لأن المحافظات العمانية تتميز بموارد حضارية متنوعة ومتفرّدة؛ حيث تُشكِّل قدرة إبداعية على المستوى الحضاري، وإمكانات استثمارية على المستوى الثقافي، إضافة إلى ما تمثله الثقافة من تأصيل على مستوى القيم، فإنها تُسهم في اندماج أفراد المجتمع من خلال الأنشطة والفعاليات، وتوسيع نطاق الخدمات الثقافية ومرافقها، بما يخدم تحسين البيئة والرفاه للمجتمع، إضافة إلى ما تشكله حرية التعبير خاصة التعبير الفني من تعزيز للمستوى الفكري والحضاري، وبالتالي تعزيز المواطنة والقيم المجتمعية.
إن الثقافة في مفهوم اللامركزية الإدارية تتأسس في فعل المشاركة الأهلية، التي تقوم على بناء العلاقات الإيجابية بين الحكومة والمجتمع باعتبارها مركز التقاء مجتمعي يقوم على التشاركية، وإمكانات تفاعل الممارسات والمهارات والقيم، الذي سيؤدي إلى الاندماج الاجتماعي. ولهذا فإننا ونحن نتحدث عن التخطيط المجتمعي التنموي للمحافظات لابد أن نتذكر أن الثقافة هي مركز تلك التنمية، وأن التنمية الثقافية في مجتمعاتنا المحلية بتنوعها عليها أن تقوم على مفهوم القيم من ناحية والموارد الثقافية التي يمكن أن تفتح آفاق الصناعات الإبداعية والاستثمار في الثقافة، وبالتالي المساهمة الفاعلة في التنمية المحلية في المحافظات.
• عائشة الدرمكي كاتبة وباحثة عمانية في مجال السيميائيات
