حسابات التكلفة لخيارات التصويت والاستفتاء
تأتي علميتا التصويت، والاستفتاء كإحدى العمليات المهمة في أي مجتمع ينشد التقدم والازدهار، واستشراف آفاق جديدة ورحبة من تصويب مسارات التنمية، وأهدافها، وبرامجها، ومعنى ذلك أن هاتين الأداتين لن تستغني عنها أي تجربة تنموية في أي دولة كانت، وينظر إلى النظام السياسي الذي يتخذ أدوات الديمقراطية المختلفة، منهجًا أصيلًا لتنفيذ أجندات التنمية في المكون الجغرافي الذي يديره، بكثير من التقدير من المجتمع الدولي، وفوق ذلك يخفف عليه تكلفة فاتورة الانتقاد وعدم الرضا فيما يسنه من قوانين، وبرامج، وأنظمة، من قبل جمهوره العريض الذي يرى لنفسه أحقية المساهمة المباشرة في المشروع التنموي الشامل.
ويذهب مفهوم حق التصويت والاستفتاء، ليس كممارسة ديمقراطية آلية أو إدارية، وإنما تذهب إلى الأبعد من ذلك، عندما تؤسس في ذاكرة الناس هذا الحق في مناحي الحياة اليومية المختلفة، سواء على مستوى الدولة، وهي الحاضنة الكبرى، لهذه العمليات الانتخابية في مناخاتها المختلفة، أو سواء على مستوى الفرد، الذي تصبح عنده هذه الممارسات جزءا من حياته اليومية، حيث تظل في يده كخيارات متاحة للتفريق بين خطأ وصواب، وبين تصويب لمختلف الممارسات التي يقوم بها على مستوى أسرته، أو جماعته القريبة، وذلك كله للوصول إلى إنجاز يحقق الأهداف والطموحات التي يسعى إلى تحقيقها على مستواه الشخصي كخطوة أولى، وعلى مستواه الأسري كتأسيس وتهيئة لمتطلبات المجتمع من حوله، ومن ثم تفريغ ذلك، عمليا، في حاضنة المجتمع، وصولًا إلى استحقاقات الوطن الكبير.
لم يعد مخفيا على كثير من أبناء المجتمعات اليوم أمر التصويت، وله عناوين كثيرة، حيث تحل الآلية الانتخابية التي تقيمها، عادة، الحكومة لموضوع ما، سواء أكان ذلك لانتخاب رئيس، أو أعضاء سلطة تشريعية، أو طرح قوانين للاستفتاء عليها، سواء على مستوى الدولة ككل، حيث يشارك في ذلك كل الذين يحق لهم التصويت وفق معيار السن (العمر) أو المعيار الثقافي، أو الفئوي، أو النوع، يحدث ذلك بناء على ما يضعه دستور البلاد من أسس معرفية، وقيم ثقافية، وأعراف وتقاليد مجتمعية، ولذلك ينمو الأجيال في ذهنيتهم تراكم معرفي، وتجربة حياة، وممارسة عملية لكل هذه الصور الذهنية التي تختزنها الذاكرة، فتسقطها على الواقع عند الممارسة العملية في الانتخابات، مما يشكل حوارا متناغما بين المواطن والحكومة على طول خط التعاون والتعاضد القائم بين الطرفين.
وعلى الرغم من أهمية أن يكون هناك تصويت للاختيار، يعقبه استفتاء على نجاعة هذا الاختيار، إلا أن كلا الممارستين لا تحظيان بأهمية ملحة في أوساط المجتمع، وحتى على المستوى الرسمي، حيث يميل الأغلب، على المستوى الشخصي، أو المستوى الجمعي إلى الانحياز إلى الصوت الواحد، أكثر منه إلى الصوت المشترك، وقد نظر إلى هذه المسألة على أنها واحدة من المعوقات الكبيرة في مشروعات التنمية المختلفة، وهذه الصورة قاسم مشترك لدى كثير من المجتمعات الإنسانية، وعد ذلك أن الإنسان الفرد، لا يزال، منحازًا إلى كل ما هو فردي، وليس كما يشاع أن انتماءه الاجتماعي يؤثر على قناعاته وتجاذباته الفردية، وهنا ما يفسر إلى أن الإنسان يضع أولوياته الخاصة في المقام الأول، ومن ثم يفكر في المصلحة العامة، مع أن التصويت، ومن ثم الاستفتاء ذاهب إلى خدمة الصالح العام، ومحاولة انتزاع الفرد من حالته الخاصة جدًا، إلى روح الجماعة الواحدة، لزيادة التعاضد، والتعاون، والتماسك، وهي الرهانات المهمة في حياة المجتمع ككيان مستقل، أيضا، عن مجتمع الأمة، أو المجتمع الدولي.
ولأن التصويت، والاستفتاء حالة وطنية خاصة جدا، فإن ذلك يستلزم أن تضع الأنظمة السياسية شروطا قاسية للذين يحق لهم التصويت والاستفتاء على مختلف الجوانب والموضوعات، سواء أكانت هذه الموضوعات تنموية تعزز من المشروع التنموي في البلاد، أو موضوعات اجتماعية من شأنها أن تعزز مستوى الأمن الاجتماعي، وتحافظ على مختلف الصور الاجتماعية التي تزيد من الترابط والتعاضد والتآزر والتوافق بين أبناء المجتمع الواحد، ومن هنا ينظر إلى مشروع التجنيس «عموما» على أنه من المشروعات التي تأخذ حساسية مفرطة في كل ما يتعلق بالبعد الأمني في شقيه الوطني والاجتماعي، وذلك لعدم اليقين بحقيقة الولاء والانتماء الوطنيين، من جانب مجموعة المجنسين، ولعل موضوع التجنيس من الموضوعات التي تثار حولها الكثير من المناقشات، عندما يتعلق الأمر بالجوانب التصويتية، والاستفتائية لدى كثير من المجتمعات الإنسانية، وإن كانت هناك دول تتعامل مع هذا الجانب بحذر شديد، فإن هناك دولا أخرى تقيده، وتضع مشاركة المجنسين في حدود ضيقة، خوف الوقوع في مصائد خدمة أجندات خارجية، من حيث لا تدري، ولعلي أقرأ شيئا من هذا الفهم للتدليل على ما أقول، هو ما كتبه صلاح أبو نار في مقال له نشرته «جريدة عمان» في عددها الصادر بتاريخ 28/ 1/ 2019م، بعنوان (بين خياري تعديل الاتفاق والاستفتاء الجديد) يقول ما نصه: «أظهرت الخبرات الأوروبية كيف تحول المهاجرون المستقرون، على الأخص القادمين من بلدان جنوب المتوسط، إلى وسيط ثقافي واجتماعي لتوليد الجماعات الإرهابية، الأمر الذي أوجد رغبة بريطانية في الابتعاد عن السياقات الأوروبية المغذية للهجرة، وجاء صعود الشعبوية البريطانية ليؤطر تلك المخاوف، ثم ضاعفت منها التحسبات الأمنية المباشرة، وعلى سبيل المثال أشار تقرير للمخابرات البريطانية، لثلاثة آلاف بريطاني قاتلوا مع داعش في سوريا، سيعودون لبريطانيا بخبراتهم السياسية» -انتهى النص.
يرى البعض أن استقطاب الدول للقوى العاملة الأجنبية فيها، ومكوث هذه القوى العاملة لسنوات عديدة، مما يؤهلها لأن تحظى بالجنسية -على سبيل المثال- أن تعطي في التشريع أحقية المساهمة في التصويت، أو الاستفتاء، فيها مخاطرة كبيرة على الأمن الوطني، والاجتماعي على حد كبير، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الأوطان البديلة لأي مغترب كان، لن تنزله منزلة الوطن الأم، وقد أكدت الأحداث الدولية في كثير من المواقف أن وجهة النظر هذه منطقية، وعلى مستوى كبير من الواقعية، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية في كثير من الدول عدم السماح، ليس فقط للمغترب المحتفظ بجنسيته الأم، بل حتى للذين حصلوا على جنسية الوطن البديل، عدم السماح لهم بالتصويت، أو أقلها الاستفتاء، وهو «حق النقض الشعبي» في موضوع تشريعي ما، يجمع عليه الشعب، إما تأييدا، أو معارضة، أو تعليقا، وفق ما تشير إليه التنظيرات العلمية، وهو ما يسمى أيضا بـ«الديمقراطية المباشرة» ومباشرته هنا أنه لا يحتاج إلى مؤسسة تجمع المستفتين ليقولوا كلمتهم وفق تنظيم إداري معين، وإنما يتوجه بالاستفتاء إلى عامة الشعب مباشرة، وهو من أسرع أدوات العملية الديمقراطية، وهذه هي ما تجعل النظر في مسألة خطورة التنظيم الإداري للنسل ضرورة من خلال برامج تحديد النسل الذي يذهب إلى تحديد رقم معين لعدد سكان الدولة ولمرحلة زمنية قد تمتد لعشرات السنين، مما يؤدي إلى نتيجة خطيرة، وهي وجود فئة من كبار السن في مراحل متقدمة من عمر الدولة، مما يستدعي ضرورة تعويض قوى عاملة بشرية -قد تكون عشوائية- لإنجاز مشروعات الوطن التنموية، وبالتالي فتح الباب على مصراعيه لاستقدام قوى عاملة وافدة، وبصورة غير طبيعية، ومكوث هذه القوى العاملة فترات زمنية طويلة فتثقل كاهل الوطن سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، فيؤدي ذلك إلى حتمية التجنيس، وبالتالي دخول المجنسين في خصوصيات الوطن البديل، واندماجهم، العرقي، والنوعي، والديني، لا شك، أنه ستكون له تكلفته الثقيلة، وقد تذهب المسألة إلى كثير من التعقيد حيث تتكون روابط نسب، ومصاهرة، فيفقد الوطن خصوصيته الديموغرافية، والعرقية، وما يتبع ذلك من تشويه في اللغة، والقيم، والتقاليد، وإن كان هناك من يرجح أن التنوع الثقافي والعرقي، وحتى الديني له دور كبير في تصويب نتائج التصويت، والاستفتاءات، وإعطائها الكثير من الحيوية، والتجديد، ولكن، في المقابل، أن التنوع الثقافي والعرقي المستورد، لن يكون بذات الصورة الحالمة التي ينظر إليها بهذه النظرة التفاؤلية، أو التقييم المبالغ في تقديره، وذلك بسبب بسيط، وهو أن المسكون بوطنه الأم سيظل كذلك، حتى وإن أغدق عليه الوطن البديل بالكثير من الرضا والبركة.
________
* أحمد بن سالم الفلاحي
كاتب وصحفي عماني
