"نيويورك تايمز" وجرائم الجيش الأمريكي
وأنا أقرأ تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن جرائم الجيش الأمريكي، الذي نشرته يوم السبت 18 ديسمبر 2021، جال في خاطري موقف ذكره الإعلامي محمد كريشان في كتابه "إليكم التفاصيل"، حيث قال إنه وقف في قلب مدينة يافا الفلسطينية أمام الكاميرا يتحدث لقناة الجزيرة عن ضياع وطن وإحلال شعب محل شعب، وتسمية جديدة على الخريطة محل أخرى التاريخية، فالتفتَ إلى زميله وليد العمري وقال له: أليس غريبًا وطريفًا في آن واحد أن أقول ما قلتُه الآن، بل وأن نخصّص تغطية كاملة لعدة أيام لذكرى تطعن في شرعية دولة، نحن نبث من أراضيها وهي من تسمح لنا بهذه التغطية من هنا؟! فما كان من وليد العمري إلا أن ابتسم وقال: "في إسرائيل بإمكانك يا صاحبي أن تقول ما تريد.. لن يزعجهم ذلك في شيء أبدًا، لكن إن تحركتَ خطوةً واحدةً يمينًا أو شمالًا يمكن أن تمس أمنهم فلن تأخذهم فيك أبدًا لا شفقة ولا رحمة". وقد توقفتُ كثيرًا أمام هذا القول، وقارنتُ بينه وبين ما يحصل من بعض الدول التي تضيق ذرعًا بما يكتبه الصحفيون والمغرّدون، متناولين قصور بعض الخدمات الأساسية، وهي المقالات والتغريدات التي لا تمسّ الأمن الوطني لا من قريب ولا من بعيد، في حين يقول المنطق إنّ الكبت يوّلد الانفجار عكس التنفيس، والأمَرّ من ذلك أن تتفرغ بعض السفارات لمتابعة ما يكتبه الكتّاب وتقدّم بين وقت وآخر احتجاجات رسمية، وكأنّ الكاتب أو الصحفي قد هزّ أمن تلك الدول بما كتبه - وقد نالني من ذلك الكثير - وهي إشارةٌ واضحةٌ على أنّ أنظمةً هذا شأنها هي من الهشاشة بمكان، مهما تدثّرت بملابس القوة الخادعة. ولا يمكن أن نتصور اعتقال أحد ما في إسرائيل أو أمريكا بسبب تغريدة، كما لا يمكن أن نتصور قتل أو اعتقال صحفي بسبب مقال كتبه.
وما قامت به صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية من فضح جرائم الجيش الأمريكي هو أمرٌ عادي في دولة مثل أمريكا، ولكن بالنسبة لنا هو أمرٌ لا يمكن تصديقه، ولا يمكن أن يتقبله البعض ممن تربّوا على "الممنوعات" حتى تحكّمت فيهم الرقابة الذاتية، وصارت تصّورُ لهم أنّ كلّ كلمة هي ضد الوطن وتضر بالأمن القومي. فقد نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تحقيقًا قاسيًا حول ضربات الطائرات الأمريكية المسيّرة، التي أصبحت الوسيلة المفضلة للجيش الأميركي منذ 2014 في حربه ضد الجماعات الجهادية في أفغانستان والعراق وسوريا. واستنادًا إلى 1300 تقرير لوزارة الدفاع الأميركية حول حوادث أدت إلى سقوط ضحايا مدنيين، حصلت عليها الصحيفة الأميركية اليومية بموجب قانون الشفافية في الإدارات، يشكّل هذا التحقيق ضربة لصورة "الحرب النظيفة" التي تصر أمريكا أنها "دقيقة"، وهو ما خالفتها فيها الصحيفة عندما قالت إنّ "الحرب الجوية الأمريكية شابتها معلومات استخباراتية فاشلة، وعمليات متسرعة وغير دقيقة لإطلاق صواريخ ومقتل آلاف المدنيين، بما في ذلك عدد كبير من الأطفال"، ومع ذلك - كما قالت الصحيفة – فإنّ التقرير "لم يشر إلى خطأ أو عقوبة تأديبية، بل حلّ التعتيم على الجرائم والإفلات من العقاب". ويشير التحقيق أنه خلال خمس سنوات شن الجيش الأميركي أكثر من خمسين ألف غارة جوية في أفغانستان وسوريا والعراق، واعترف بقتل 1417 مدنيًا خطأ في غارات جوية في سوريا والعراق منذ عام 2014؛ فيما سقط في أفغانستان 188 مدنيًا على الأقل منذ عام 2018.
ولكي ندرك أننا أمام إعلام حقيقي لا بد أن نعلم أنّ صحيفة "نيويورك تايمز" اضطرت إلى إقامة عدد من الدعاوى القضائية على البنتاغون والقيادة المركزية الأمريكية، حتى حصلت على هذه الوثائق، واستغرق التحقيق أشهرًا، حللت فيه الصحيفة الوثائق التي حصلت عليها.. وتحققت من الوقائع على الأرض.. ودققت في المعلومات الرسمية حول أكثر من مئة موقع تعرّض للقصف. وكشفت الصحيفة أنّ عدد الضحايا المدنيين الذين اعترف بهم البنتاغون "أقل من الحقيقة بشكل واضح"؛ فوثائق وزارة الدفاع الأمريكية تفيد أنّ 4% فقط من الأخطاء في تحديد العدو أدت إلى سقوط مدنيين، لكن التحقيق الميداني الذي أجرته الصحيفة يدلّ على أنّ نسبة هذه الحوادث تبلغ 17%، وسقط خلالها ثلث القتلى والجرحى المدنيين. وأمام التحقيق الذي نشرته الصحيفة أكدّ الجيش الأميركي “صدقية” 216 من أصل 1311 حالة درستها الصحيفة، ورفض الجيش تقارير متعلقة بسقوط ضحايا مدنيين، "لأنه لم تظهر في مقاطع الفيديو جثث تحت الأنقاض، أو لأنها لم تكن طويلة بما يكفي لاستخلاص نتائج"، ومع ذلك دافع بيل أوربان الناطق باسم القيادة المركزية الأمريكية عن تلك الأخطاء قائلا: "حتى بوجود أفضل التقنيات في العالم، تحدث أخطاء إما بسبب معلومات خاطئة أو تفسير خاطئ للمعلومات المتوافرة".
لم يكن التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" هو الأول من نوعه، فقد سبق لها أن نشرت تقريرًا في شهر نوفمبر 2021، ذكر فيه أنّ الجيش الأمريكي تستّر على ضربتين جويتين نفّذهما على سوريا عام 2019 تسببتا في مقتل زهاء 64 امرأة وطفلا، "وهي جريمة حرب محتملة". وبحسب التقرير فإنّ ضربتين جويتين متتاليتين بالقرب من قرية الباغوز نُفذتا بأمر من وحدة عمليات خاصة أمريكية سرية مكلفة بالعمليات البرية في سوريا، وإنّ القيادة المركزية الأمريكية - التي أشرفت على العمليات الجوية الأمريكية في سوريا - اعترفت بالضربتين لأول مرة خلال الأيام الماضية، قائلة إنهما مبررتان.
ما جاء في تقرير "النيويورك تايمز" بالتأكيد مؤلمٌ جدًا خاصةً بالنسبة للضحايا، وقد قدّم التحقيق ما يُعتبر "صحيفة دعوى" لأهل الضحايا أن يتقدّموا بشكاواهم، فالمجالُ أصبح الآن متاحًا، وعندما تكون هناك إرادة يمكن أن يتطور الأمر مستقبلا إلى طلب التعويضات. ويبقى أنّ أمْرَ كشف هذه الجرائم لم يأت من الضحايا - الدول والأهالي - ولكنه أتى من صحيفة أمريكية احترمت رسالتها ومهنيتها، ولم يخشى رئيس التحرير وطاقم الصحيفة من الاعتقال أو التصفية الجسدية، لا بالرصاص ولا بالمنشار أو غيرهما، تمامًا مثلما لا نخشى نحن أبدًا المرور أمام السفارة الأمريكية في أيّ مكان في العالم، لأنّ ما يهمّها هو أكبر من مراقبة مقال فلان أو تغريدة علان؛ فكما قال وليد العمري لمحمد كريشان بإمكانك أن تقول ما تريد طالما أنت بعيدٌ عمّا يمس الأمن. وما نكتبه نحن، ومعظم ما يقال عبر وسائل التواصل هو في الأصل بعيدٌ عمّا يمس الأمن. وأكيد أن تقرير نيويورك تايمز لا يمس الأمن القومي الأمريكي، لأنّ ضحاياها أضعف من أن يقفوا أمامها.
