الاحتفاء بالعربية وحده لا يكفي
منذ اعتماد اللغة العربية كلغة عالمية في الثامن عشر من ديسمبر 2012، والذي يوافق صدور قرار هيئة الأمم المتحدة رقم 3190 ، بتاريخ 18 ديسمبر 1973، باعتبار اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة، أقول منذ ثمان سنوات واللغة العربية عنوان للعديد من الفعاليات والمناسبات في الوطن العربي، أو في بعض الأقسام العربية في الجامعات غير العربية، ولكي لا نبخس جهود الآخرين فإننا نثمن مساعيهم ونشكرهم عليها، لكننا نرى بأن اللغة العربية، تستحق مكانة أعلى من المناسبات السنوية، فهي ليست لغة تواصل يومية بين مجموعة من البشر، وليست لغة نشرات الأخبار، بل لغة خاطب بها الخالق رسوله محمد، ونزّل بها الرب آخر رسالاته السماوية إلى البشرية، وشكلت وعيا للناطقين بها منذ انتشارها عبر الدين الإسلامي، ونطق بها غير العرب، وألفت بين شعوب وقبائل، كانت متناحرة فيما بينها.
بل أصبحت جسرا لعبور العلوم والفنون من الثقافات المجاورة اليونانية والفارسية والهندية إلى اللغات الحية اللاتينية والجرمانية. وهذا ما أكسبها مكانة لدى المؤسسات الدولية، إذا قررت اليونسكو سنة 1966 استخدام اللغة العربية في المؤتمرات الإقليمية، وبعد 6 أعوام وفرت اليونسكو أيضا خدمة الترجمة من وإلى اللغة العربية، وبعد ثلاث سنوات اعتمدتها المنظمة ذاتها المعنية بالثقافة والعلوم كلغة عمل رسمية، وفي الرابع عشر من الشهر الحالي أدرجت اليونسكو الخط العربي في قائمة التراث الثقافي غير المادي.
لقد حظيت اللغة العربية باهتمام علماء اللغات السامية، ومنهم من وصفها بأنها اللغة الأقرب لأن تكون اللغة السامية الأم، وحسب قواعد العربية وأصواتها وُضِعت المشتركات بين اللغات السامية أو ما يميزها عن غيرها من اللغات، ومنها (أن أغلب الكلمات يرجع في اشتقاقها إلى أصل ذي ثلاثة أحرف، وليس في الساميات أي أثر لإدغام كلمة في أخرى، ووجود حروف الحلق " ح. ع"، حروف التفخيم أو الإطباق "ط. ص.ق.ض"، الحروف الأسنانية "ظ. ث.ذ")، ولذلك يُشترط على الطالب الذي يرغب في دراسة اللغات السامية، في الجامعات الغربية دراسة اللغة العربية.
إن اللغة أي لغة تفقد قيمتها إن لم تكن لغة العلم والسوق والإبداع، ولذلك وضعت العديد من الدول شرط الحصول على مستوى المتوسط في لغاتها، لمن يرغب في العمل في أسواقها أو الحصول على جنسيتها، فمثلا في ألمانيا لا بد من الحصول على شهادة في اللغة الألمانية بمستوى (B1)، لمن يرغب في العمل، وشهادة (2B) لدخول الجامعة. وهذه الشروط وإن كانت تُحافظ على لغة البلد الرسمية، إلا أنها تفتح مجالات اقتصادية أخرى، منها انتعاش معاهد اللغة، وخلق وظائف تدريسية، ووضع مناهج تعليمية، وطباعة مقررات دراسية وقواميس لغوية وغيرها من الوسائل والوسائط المُعينة على تسهيل تعلم اللغة.
إن وضع اللغة العربية كشرط للحصول على العمل في الدول العربية، وخاصة في دول الخليج، التي يعمل بها ملايين الوافدين من غير العرب، ستعُد نقلة نوعية في الحفاظ على اللغة في سوق العمل، كما أنها تعني احترام الدساتير والأنظمة الأساسية، التي تنص على أن العربية لغة رسمية للدولة، ولذلك يتوجب احترام الأنظمة والدساتير. صحيح أن اشتراط اللغة العربية في السوق الخليجية، سيكون أمرا صعبا على القوى العاملة الوافدة، سواء الفئة المدربة كالمهندسين والفنيين وغيرهم، أو القوى العاملة المهنية ممن لم ينالوا حظا من التعليم في بلدانهم. ولكي تنجح فكرة اقتران المهنة بالحصول على شهادة اللغة العربية - مستوى دون المتوسط-، يتوجب وضع خطط وبرامج، منها على سبيل المثال، تقديم حصص ومحاضرات في اللغة العربية مجانية في البداية، ثم اشتراط تجاوز اختبار في اللغة العربية، للحصول على أذونات العمل، وتجديد إقامة العامل. قد تواجه مثل هذه القرارات بمعارضة من قبل مؤسسات القطاع الخاص، وهي مُحقة إذا نظرت إلى الموضوع من زاوية الربح والخسارة، ولكن الموضوع يتجاوز المردود المالي، إذا كانت اللغة وهي جوهر الهوية والثقافة الوطنية مُعطلة في الرسائل الإدارية والمخاطبات في القطاع الخاص.
إن الأمنيات لا تحافظ على بقاء اللغات وديمومتها على الألسن، بل بالتشريعات والقرارات، التي تسن القوانين وتطبقها وتنفذها، لهذا يتطلب من الجهات المعنية ومؤسسات التعليم العالي والمعنين بالأمر، رفع التصورات والبرامج التي من شأنها أن تُعيد للغة العربية مكانتها في العلوم والبرمجة، ووسائل التقنية الحديثة.
