الرؤية الفلسفية عندما تتنافر رموز أصحابها

01 ديسمبر 2021
01 ديسمبر 2021

لا شك أن التناقضات بين المفكرين والفلاسفة، تحصل منذ القدم، ولذلك هي قضية قائمة مسّلم بها في كل ميادين الفكر، حتى بين الذين يلتقون في رؤى فلسفية متقاربة في مسائلها الفكرية، فالفلاسفة اليونانيون، والذين يعتبرون من المؤسسين للفلسفة القديمة التي عرفت في أثينا، وما حولها، اختلفوا مع بعضهم البعض في رؤى فلسفية فكرية عديدة، لأن الفكرة الفلسفة بطبيعتها غير محصورة محددة البحث والنظر والاستقصاء في قضايا محددة، فالحرية الفلسفية بطبيعتها طريقة للتفكير الحر دون تقييد ، في الأمور التي ترتبط برغبة الفيلسوف الذي يريد المعرفة بحسب توجهه الفكري والعقائدي، وتحريك العقل في تتبع الغيبيات والموجودات ومعرفتها وطرح الآراء حولها، إلى جانب العلوم الأخرى ،إلى غير ذلك من المعارف، ولذلك تظل الفلسفة طريقة معروفة لتعدد الأفكار واختلافها وتناقضها في الكثير من القضايا الفلسفية من العصور القديمة، وكلما تأتي نظرية فلسفية جديدة وتشتهر، تأتي نظرية أخرى برأي مناقض لها من الفلاسفة أنفسهم ، ولا يمكن أن تطرح نظرية فلسفية بعيدة عن النقض والنقد، بل وحتى من السخرية في أطروحاتها.

وقد أشرت في الأسبوع المنصرم ، إلى رؤية أبي حامد الغزالي، واختلافه مع الفلاسفة اليونانيين في الكثير من نظرياتهم الفلسفية ، لا سيما في مسائل الإلهيات والوجود الإنساني كالحشر وعلم الله تعالى في مخلوقاته ، وكان لهذا النقد الصدى الكبير في نقده للفلسفة حتى بعض من الفلاسفة والمفكرين العرب والأجانب، اعتبروا نقده للفلسفة ، من أهم وأقوى الآراء التي طرحها الغزالي خاصة في كتابه (تهافت الفلاسفة)، الذي صدر، في عام 1095 ، وأكثرها قوة واستدلالاً في مناقشة أفكار الفلاسفة اليونانيين ، ومن تقبل نظرياتهم في عصره، والذي يعد من الأفكار التي قال عنها بعض الباحثين الغربيين وغيرهم، بأن الغزالي أنهى الفلسفة بقوة رأيه ومنطقه في هذا الكتاب ، بعدما كاد رواجها أن يسيطر على الكثير من النخب الفكرية في عصر هذا العالم الكبير، وهذا ما جعله يفكر في نقد أفكار الفلاسفة بداية، وسبق ذلك إصداره لكتاب ( مقاصد الفلاسفة) كما أشرنا إلى ذلك ، وكان كتاب المقاصد بمثابة معرفة الفلسفة وحقيقتها وهدفها، وهو ما مهّد لكتاب (التهافت) بعدة ذلك، والأدلة التي ساقها الغزالي في كتابه عما قاله الفلاسفة في نظرياتهم التي يراها لم تصل إلى مرتبة البراهين اليقينية والتي تأتي باستدلالات مقنعة ، وفي هذا يقول: "ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية".

ولذلك فإن أبي حامد الغزالي فنّد الأفكار التي قالها الفلاسفة اليونانيون بطريقة ثاقبة وعميقة، وانطلق من معرفة رزينة ، من خلال قراءته للفلسفة، واستوعبها تماما، وهذا ما قاله المستشرق " دي بور"، الذي قال إن الغزالي:"درس مصنفات الفلاسفة، ولا سيما الفارابي، وابن سينا دراسة وافية، وقد ألف مختصراً جامعاً في الفلسفة، وذلك طبقاً لمذهب ابن سينا في الحملة وهو في هذا يقرر تقرير الباحث العلمي، ويحكيها على وجهها، غير معترض لما فيها من حق وباطل في رأيه". وهذه هي الموضوعية في أورع صورها ساهمت في نقض آراء الفلاسفة اليونان ـ كما يقول د/ محمد آيت حمو، في كتابه :(العقل الحجاجي بين الغزالي وابن رشد)، حيث يرى آيت حمو أن الغزالي عندما حارب الفلسفة، كان على دراية كافية برؤية الفلاسفة وتعرف على أدواتها،:"وتمرس بإشكالياتهم في المعركة الفلسفية المشهورة باسم "تهافت الفلاسفة"،(..) فقد حارب كذلك المعتزلة بأسلحة عقلية ونقلية في المعركة الكلامية المشهورة باسم «الاقتصاد في الاعتقاد»، فكيف يمكنه أن يسلم من تأثير عقلانيتهم كذلك؟ “إذ من نازل عدوا عظيما في معركته فهو مربوط به مقيد بشروط القتال وتقلب أحواله، ويلزمه أن يلاحق عدوه في حركاته وسكناته وقيامه و قعوده، وربما تؤثر فيه روح العدو وحيله. كذلك في معركة الأفكار أيضا".

والأمام الغزالي سبق العلامة ابن رشد بما يقرب تسعة عشر عاماً، وهو من الذين ـ ابن رشد ـ لاقت فلسفة أرسطو اهتماما كبيراً، إلى حد أنه يعتبر أحد الشراح المبدعين لهذه الفلسفة اليونانية، والذي قدم إضافات كبيرة على فلسفته ، باعتراف الفلاسفة القدماء أو المعاصرين ، ويعتبر ابن رشد في أوروبا في القرون التالية التي ظهرت فيه فلسفته وفكره الفلسفي، بـ(الرشدية اللاتينية)، لكن بعض المستشرقين من المتابعين للفلسفة الإسلامية، ومن غيرهم من الباحثين العرب، اعتبروا ابن رشد مجرد ناقلا للفلسفة اليونانية، وليس فيلسوفاً أصيلاً لهذه الفلسفة ومن هؤلاء الذين انتقدوا الرشدية الفلسفية، د/ علي سامي النشار، وهو من كبار الباحثين العرب في الفلسفة الإسلامية والمدارس الكلامية والفقهية، ومؤلف كتاب (نشأة الفكر الفلسفي)، في ثلاثة أجزاء، ومن الذين يعتقدون أن ابن رشد ناقل للفلسفة ، ومجرد شارح لفلسفة أرسطو.. ومن الذين دافعوا عن العلامة ابن رشد ، د/ محمد عابد الجابري، وهو من الباحثين الذين حققوا سيرته وفكره وفلسفته واهتماماته العقلية والطبية، إلى جانب اجتهاداته الفكرية ، وممن اعتبروا ابن رشد فيلسوفاً أصيلاً، وليس شارحاً لفلسفة أرسطو.

وقد وجهًت للدكتور محمد عابد الجابري العديد من الانتقادات، بسبب انحيازه ـ كما قيل من البعض ـ للمغرب ومدارسه الفكرية والفلسفية، واعتبار أن المغرب تمثل البرهان العقلي، والمشرق، يمثل البيان والعرفان والابتعاد عن العقلانية، ولذلك كان موقفه من ابن راشد ـ كما قالوا ـ مغالياً في الدفاع عنه ، بحسب الكثير من الباحثين العرب ومنهم د/ طه عبد الرحمن، و د/ محمد جابر الأنصاري، وغيرهم من الباحثين، وكان انتقاده للغزالي حاداً ولم يكن منصفاً في بعض ما قاله عنه، بالرغم أن نقد الغزالي في كتابه: (تهافت الفلاسفة)، كان متعلقاً في الإلهيات، والتي قالها فلاسفة اليونان، ومن خلال استدلالات منطقية وعقلية على كل هذه الآراء.

وعندما اتجه العلامة ابن رشد إلى الفلسفة وتمرس فيها، أصبح من شراحها الكبار، وبالأخص فلسفة أرسطو، بالإضافة أنه كان قاضيا، وفقيهاً، ومتكلماً، إلا أنه تعلق بالفلسفة ورأى فيها رؤية تتقارب مع نزوعه العقلي، مع محاولة التوفيق بينها وبين الدين كما جاء في بعض مؤلفاته، وقد أشرت إلى ذلك في كتابي،(أكاديميون ومفكرون عرفتهم)، من خلال ما طرحه د/ محمد عمارة، الذي اقترب من الفلسفة الرشدية وشرحه لفلسفة أرسطو، وكتب عن العلامة الغزالي، وخلافه الكبير من الفلسفة اليونانية القديمة، لكنه طرح رأياً متوازناً بينهما، واعتبر الاختلاف الذي جرى بينهما في كتاب (تهافت الفلسفة)، للغزالي، و(تهافت التهافت)، لأن رشد ليس خلافا في القضايا الكبرى، بل نقاشاً فكرياً، بين عملاقين من العمالقة في الفكر العربي الإسلامي، وكان لكل منهما أنصار ومؤيدون، وقد ناقش د. محمد عمارة في كتابيه (فقه الحضارة الإسلامية)، وكتاب (ابن رشد.. فقيه الفلاسفة.. وفيلسوف الفقهاء)، وطرح أسس الاختلاف بين الإمام أبو حامد الغزالي، والفيلسوف ابن رشد، وما جرى من سجالات ومناقشات عبر هذه المؤلفات، من خلال رؤيتهم للفلسفة في قضاياها الفكرية، وقصة كتاب(تهافت الفلاسفة)، للإمام الغزالي الذي هاجم في هذا الكتاب ،الفلاسفة اليونانيين، ومن شايعهم من فلاسفة المسلمين في رؤيتهم الفلسفية ،وكتاب (تهافت التهافت)،لابن رشد الذي رد على الغزالي في هذا الكتاب،ودافع عن الفلسفة والفلاسفة، فيقول محمد عمارة:" فمع إبداع الغزالي في ميادين العقلانية الإسلامية الخالصة، كما تجلت في علم الكلام، وعلم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، أراد توجيه النقد لتجليات الفلسفة اليونانية في المحيط الإسلامي، تلك التي تحررت عقلانيتها من (النقل) والوحي، فكان كتابه [ تهافت الفلاسفة ] نقداً للنظريات الفلسفية، ذات الأصول اليونانية، التي تبناها بعض فلاسفة الإسلام وخاصة الفارابي (260 339 هـ 874 950 م ) وابن سينا ( 428 ه 980 1037م) ، فاقتصر النقد في هذا الكتاب (على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذاهب رؤسائهم )، من الفلاسفة القدماء أي اليونانيين".

أما الفيلسوف والعلامة والفقيه أبو الوليد، ابن رشد، فان د/ محمد عمارة، يراه في كتابه (تهافت التهافت)، مدافعاً قوياً عن الفلسفة، وكرّس جهده في الرد على أبو حامد الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة)،وابن رشد كما يقول محمد عمارة : "قد جمع بين الإبداع الإسلامي، في الفقه والفلسفة والكلام، وبين تقديمه لأكبر مشروعات الفلسفة اليونانية ـ فلسفة أرسطو ـ فلقد وضع منهاجاً عادلاً لتفاعل الأفكار بين الحضارات المختلفة، وبين المتقدمين واللاحقين .. فالعدالة مع ((الذات)) تقتضي العدالة مع ((الآخرين)) ..و" قد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السابقة نظراً في الموجودات، واعتباراً لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم".

فابن رشد، كما يقول د/ محمد عمارة، أسهم بجهد فلسفي كبير، بعرض فلسفة الفيلسوف أرسطو، وهذه من الانتقادات التي وجهّت للفيلسوف ابن رشد، بأنه كان مقلداً لهذا الفيلسوف، أكثر مما ينبغي، باعتباره فقيهاً ومتكلماً، وهذا ما جاء في انتقادات المفكر والفيلسوف د/ طه عبد الرحمن ، لكن البعض يرى أنه مجرد عارض لفلسفته ، وليس من أجل تبنيها بكل نظرتها الفلسفية، بل بهدف تقديها :"إلى الناطقين بالعربية تقديماً يصلح غايتها التي أفسدها المترجمون، ويضبط معانيها المفسرون، نهض ابن رشد بهذه المهمة؛ فقدم لأعمال أرسطو أوفى الشروح وأدق التفسيرات، حتى لقد عُدّ الشارح الأكبر لأرسطو على النطاق العالمي.. بل ويسّر هذه الفلسفة للمستويات المختلفة من القراء، وذلك عندما قدم لكل كتاب من كتبها ثلاثة شروح ـ المطول..والمتوسط..والموجزـ مع إضافات وانتقادات". ولا شك أن هذا الحوار والمناقشات، أثمرت فكراً قوياً في رؤيتهما، وفي قدرتهما على المحاججة والنقاش الثري، دون أن يكون هناك نقد ذاتي بين بينهما ، وإنما طرح لفكرة ونقيضها، بهدف الوصول للحقيقة الجديرة بالإتباع، وليس لمجرد التناقض وإثارة الخلاف، وهذا ما تم بين عملاقين كبيرين، الغزالي وابن رشد.