نوافذ : تحتكرنا تفاصيلنا

12 نوفمبر 2021
12 نوفمبر 2021

نعيش بين جدراننا النفسية الأربعة، ويبدو أنها إقامة طويلة، ليس يسيرا الخروج من استحكاماتها الرصينة، فالخروج منها، لا يتم؛ غالبا؛ إلا من خلال ما يسمى بـ "غسيل دماغ" أما بخلاف ذلك، فيبدو أن الأمر صعب جدا، فمجموعة العمليات البيولوجية التي تتم، ومكتسبات الخبرة اليومية، والمواقف بحالاتها الصادمة والداعمة، منذ أن يبدأ وعينا في الحياة، وإلى ما يشاء الله لنا من امتداد العمر، كلها تعمل على تكريس هذه الاحتكار للنفس، في ذاتها، تحتكرها إلى درجة التوحد، وهذا ما يعلي مفهوم الفردية المقبول على نطاق واسع، خاصة في المجتمعات الـ "برغماتية" التي تعلي من حساب نصيب الفرد على الجماعة، فالجماعة التي تدعو إلى التعاون والتآزر، لصالح المجموع، تأتي الفردية لتعلي من سهم الأنانية، والاحتكار ليزداد هذا السهم تضخما، وإذا كانت الجماعة تدفع بأفرادها لأن تتاح لهم فرص الحرية أكثر حتى يستنشق الجميع بشيء من الرضا، والتضحية، تأتي الفردية لتكرس مجالات التحفظ، ليكون الفرد مع ذاته فقط، فذلك رهان تفوقه على من حوله، فالتميز؛ في حد ذاته مغر؛، ويخلق في النفس نوعا من الزهو.

على امتداد رحلتنا في هذه الحياة، هناك نوع من الخوف والقلق، ينتابنا على كل ما هو خاص بنا، وقد يتعدى هذا الشعور لما عند الآخرين، وهذا ما يجعلنا أكثر تكورا على ذواتنا، وأكثر تحورا في ابتداع الطرق والوسائل لنكون في مأمن من هذا الخوف والقلق، مع أن الحياة ماضية وفق القانون الإلهي (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) – الآية (51) من سورة التوبة -. فهذا الشعور الخفي من الخوف والقلق، لا يتيح لنا متنفسا أوسع لنكون أكثر قربا من الآخر، وإن اقتربنا؛ بعد نزاعنا مع ذواتنا، سيظل الهاجس قائما، فشعور الآخر؛ أيضا؛ هو ذاته شعورنا، ولنا أن نتساءل: هل هو نقص في الإرادة؟ أم هو تواضع في الإحاطة بالحقائق؟ أم هو جهل بالمعرفة؟ أم نحن مجبرون على ذلك بحكم الفطرة؟ أم أنها المواقف الصادمة التي نتلقاها من القريبين منا، ومن البعيدين؟ كل هذه الأسباب مسوغات مقبولة لأن نتكور على ذواتنا أكثر، وتبقى تفاصيلنا الصغيرة هو محور اهتماماتنا، ونرى تأثيرها على أنفسنا نوعا من السلوى.

عندما (تحتكرنا تفاصيلنا) لا تكون هناك فرصة كبيرة للحوار، لأن مساحة الرؤية محدودة ومتموضعة، وعندها كل شيء يختزل بما يتوافق مع هذه التفاصيل، نعم؛ قد تكون هذه التفاصيل صغيرة، ولكن الذات تضخمها، وتعطيها حجما أكبر مما ينبغي، فتححب الرؤية عن الاستمتاع بالمساحات الفارغة الأخرى؛ والتي من خلالها يمكن أن ننفذ إلى رؤى تتيح لنا فرصة أكبر للحياة، وفرصة أكبر لتقييم ما حولنا، يحدث هذا لخوفنا على أنفسنا، ولخوفنا خسارة شيء من هذه التفاصيل.

لذلك لا تعتبوا على كبار السن؛ عندما يفرغون ذاكرتهم المحملة بكل هذه التفاصيل عندما تلتقون بهم، يفرغونها لأنها أتعبتهم، وهم الآن في عمر يرونها عبئا عليهم، لا يستسيغون عذوبتها مثل يوم أن كانوا صغارا في أعمارنا – نحن اليوم – دعوهم يفرغون محصلة السنين التي قضوها، فلعل هناك متسعا لرؤية الحياة بصورة أفضل.