التحول المعياري في تسليع «الحياة الاجتماعية»
حل مفهوم الـ«تسليع» للوهلة الأولى، على أنه بيع وشراء، أخذ وعطاء، عمل مقابله أجر، «سلم واستلم» أي لا بد أن يكون هناك مقابل، يتوازى مع ما بذلته، مع ما أعطيته، مع ما أجدت به، أم لم يتوازَ، فالمهم أن تكون هناك «ثيمة» حاكمة، أو ضابطة عند أي طرفين تجمعهما مصلحة ما، هذه الثيمة هي تلك التي لا تخرج عن مفهوم الـ«تسليع»هل تتوافق هذه الثيمة مع مجموعة من المعايير المعتمد عليها في الوسط الاجتماعي، أو تصدم به، تلك قصة أخرى، ولذلك ينظر إلى ثقافة التسليع (كل شيء له قيمة) على أنها ثقافة طافحة بالربح، أكثر منها بالمودة، وحولت السلوك الاجتماعي من الواجب إلى الطمع، ومن الحاجة إلى الرغبة، فالواجب، كما هو معروف، يتسامى بالتضحية، بينما الطمع يعود بصاحبه إلى الأنانية، والحاجة تسمو بصاحبها إلى الكفاف، والزهد، بينما الرغبة تذهب إلى الزيادة والعمل للاستحواذ على ما في أيدي الآخرين، فالطمع، هنا سلعة، والرغبة سلعة، وكلاهما نقيضان للواجب والحاجة، قد يكون جملة هذه التحولات غير مقصودة، في كثير من الأحيان، أثناء الممارسة، ولا يستحضرها الناس بذات الفهم الحاد (سلعة) لكن تصنيفها تحت عناوين السلع (البيع/ الشراء) كما في الأمثلة السابقة، تتحول تلقائيا إلى تقييم معياري، لأنها قابلة للمقارنة عما يجب أن تكون، وعما هي عليه في الواقع كممارسة.
تشير دلالات لفظ «التحول المعياري» إلى كثير من المعاني، ولأننا دائما متخندقون عند الظاهرة الاجتماعية، فأي تحول يحدث في خضم هذه الظاهرة، يفترض أن يوجد فينا الكثير من الأسئلة؛ لأن التحول معناه التغيير، وللتغيير استحقاقاته الخطيرة، في كثير من الأحيان، وإن كان هو محبب إلى حد كبير، إذ ينقل أنساق الحياة من حالة الركود، وتكرار الصور النمطية إلى حالة من التجدد، والابتهاج، لكنه في الظاهرة الاجتماعية يأخذ منحنيات سلوكية خطيرة، لأنها، غالبا، ما تكون سلبية، وغالبا ما تكون صادمة؛ لذا فلن تتوافق مع المعايير المعتادة، أو التي يقاس عليها عند إجراء المقارنات، وخاصة بين الفترات الزمنية للأجيال، صحيح، أن كثيرا من الناس لا يستحضرون المعايير للقياس أو المقارنة عليها، ويتقبلون جل التغييرات التي تحدث على أنها تحصيل حاصل لقناعات الأجيال، وخاصة أن مفهوم التغيير مشجع عليه، وهناك أقوال ونصوص تدعو إلى ذلك، ولا ترى فيه أية غضاضة: «فإنهم ولدوا في زمان غير زمانكم» ولكن المعيارية مهمة ليكون التقييم واضحا، وخاصة للذين يشغلهم التغيير، ويريدون أن يعقدوا مقارنات، سواء بين الأجيال، أو بين الفترات الزمنية، أو بين مجموعة الأدوات التي تلعب دورا محوريا في مجمل التغيير.
في المجتمعات الصغيرة تشغلهم كثيرا مسألة التحول المعياري للقيم، والمبادئ، والعلاقات الاجتماعية، ومجموعة التفاهمات القائمة بين الأفراد، وإن لم يستحضروا المعيار أو المستوى كأداة للمقارنة، ولكنهم فعلا مشغولون بأي تغيير يلاحظونه، ويقفون حوله الموقف الناقد، والمحلل، أحيانا، إن لم تتح لهم فرصة الموقف الصادم، ذلك لأن الدائرة التي يتم فيها التغيير دائرة صغيرة ومحدودة، وهي في المقابل، مراقبة، ومعروفة؛ ولأن المساحة غير متسعة لإيجاد البديل، فإن هناك خوفا ما، من مسألة التحول أو التغير، أو التبدل، لأن الفاقد يصعب تعويضه، وخاصة إذا كان الفاقد متعلقا بالقيم الحاكمة أو الضابطة لحركة الناس، وعلاقات بعضهم ببعض، ولعل مجتمع القرية، هنا، أقرب إلى الصورة من مجتمع المدينة، التي، غالبا، ما تتوه فيه الدلالات والمعاني، وتحتكم أكثر على التغيير، وتستخدم المعايير بقوة للمقارنات، وترى أن هناك بدائل كلما تحرر المجتمع من روابطه الخاصة، وهذه البدائل توفرها السلعة، فإذن الحرية تتسع كثيرا في مجتمع المدينة، أكثر منه في مجتمع القرية، الذي لا يزال يعض بالنواجذ على روابطه الخاصة، وإن بدأت اليوم مفاهيم السلع تتوغل شيئا فشيئا، تقليدا، أو ضرورة، أو تحصيل حاصل، سمه ما شئت لما هو موجود في المدينة الأم، ولنعط مثالا صغيرا مقربا للفهم: فحتى عهد قريب عندما تكون هناك مناسبة ما، في القرية تجد أن الجميع يخدم الجميع، سواء من تجهيز الطعام للضيوف والحضور، وما يتبع ذلك من خدمات إضافية أخرى، سواء كان ذلك في المناسبات السعيدة، أو في الأتراح، اليوم تغير الأمر، فهناك شركات صغيرة تقوم بكل هذه الخدمات (سلعة) وعليك كصاحب مناسبة أن تدفع مقابل هذه السلعة، فمع نفسك تقول: لماذا أغلب الآخرين ليقوموا بخدمة ضيوفي، وربما يحدث هناك تقصير ما، وربما أزعج أبناءهم بأوامر مستمرة، فمن الأفضل أن أسند جملة هذه الخدمات ومستلزماتها لشركة ما، بمقابل مادي، وأعفي نفسي وأبناء قريتي من كلفة كبيرة، فالتحول المعياري هنا، مقارنة بالصورة البسيطة السابقة كبيرا جدا، وتحول قيمي أكبر، لأن ذلك سوف يدفع الآخرين، عندما يلمسون جودة الخدمة المنظمة، لأن يسلكوا نفس المسلك في مناسباتهم، فهنا، بقدر ما أكرمت ضيوفك بطريقة أكثر تنظيما، إلا أنك حولت القيمة الاجتماعية «التعاون» إلى سلعة لها مقابل، واستعذبت ذلك، حتى وإن خالفت قناعاتك، لأنك وجدت فيها راحتك أكثر، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.
خذ مثال آخر أيضا الـ«موضة» فما الموضة؟، أليست عبارة عن ملابس تكسو الجسم؟ فوظيفتها إلى حد هذا الفهم هي «حاجة» الجسم للكساء، ولكن في مفهوم الموضة تتحول هذه الحاجة إلى رغبة وإلى زيادة: في الألوان، في التصاميم، في رسم تقاطيع الجسم، في الشركة المصنعة للملبس، في دور العرض، ومنهم من يذهب، ربما، حتى في هوية العارضة/ العارض، أقصد هويته الفنية من حيث الشهرة، من عدمها، فيبدو أيضا أن ما بين الرغبة والحاجة ثمة سلعة قائمة، لا يمكن تجاوز قيمتها المادية، وهذا المثال يمكن تطبيقه على كثير مما يحيط بنا في هذه الحياة، والذي يصدمك أكثر، أن يقول لك أحدهم «أنا حر في ما اختاره» والحقيقة غير ذلك تماما، أنت مجبر فيما اخترته، فمفهوم التسليع يذهب بك إلى الهيمنة أكثر من التحرر.
نتهم كمجتمعات «نامية» على أننا مجتمعات استهلاكية، وعلى نطاق واسع، وخاصة بعد مرحلة الستينيات بعد ما حلت وفورات بعض الموارد الطبيعية فغيرت الحياة الاجتماعية، حيث نقلتها من حالة الضنك، إلى حالة معقولة من التنمية الظاهرة، فحل في المقابل تسليع الكثير من القيم، وإن توغل هذا الفهم كممارسة بصورة تدريجية، وقد ساعد حلول مفاهيم الرأسمالية على الثقافة الشعبية غير الواعية، وحلت ثالثا، شركات متعددة الجنسيات بمفرداتها المختلفة من الغذاء والملابس، والأدوات الأخرى، فعمقت الفهم بصورة أكبر، حتى وإن لم يدر بخلد الإنسان البسيط أنه ينفذ برامج وتعاليم العولمة بكل رضا وقناعة، والمسألة مرشحة للصعود أكثر، وليس للتراجع، لأن مقومات الحياة قائمة على هذه الصورة، حتى لا يكاد الواحد فينا يجزم أن المكّون العضوي لدى أبنائه يسير وفق هذه الآلية، تقرأ ذلك في الأفكار، والممارسات التي يقومون بها، فلو خيرت طفلك، أو أحد أبنائك الكبار بين أن تتناولوا وجبة ما في المنزل، أو في أحد المطاعم ذات الـ «ماركات» المعروفة، يقينا، سيكون الاختيار خارج المنزل، فالصورة الذهنية عند أغلبهم تنتصر إلى شعار ما من شركات إحدى هذه الشركات «شركة متعددة الجنسية» التي تقدم الوجبات الغذائية، ولو لاحظت لوجدت أيضا أن ابنك لن يستضيف أحدا من ضيوفه في المنزل، وإنما يستضيفه في مطعم خارج المنزل، ويحدث ذلك أيضا على مستوى الأسرة، فلم تربط قيمة الكرم، وهي من القيم السامية في الأخلاق العربية، بمبدأ الأعراف، التي غالبا ما تؤصلها المنازل والأحياء، حيث الالتفاف الكبير، وإنما يستعاض بذلك بالبديل وهو المحبب اليوم أكثر، بينما هذا البديل لا يغرس فيك تلك القيمة الوجودية لتكبر في نفسك، ويكون لها مكانتها الخاصة، فالمسألة ليست مسألة وجبة طعام، وإنما ممارسة تعكس مكانها وزمنها، والروح النافثة في مكوناتها وتفاصيل المكان «المنزل» وسلوك من فيه، ورحابتهم، وتسابقهم في خدمة هذا الضيف العزيز.
