No Image
ثقافة

" كلّ شِبْرٍ من الترابِ العُماني.. " رائعة أحمد السَّقاف الخالدة

19 أكتوبر 2021
كتابات عُمانية مُبكرة بأقلام عربية (46)
19 أكتوبر 2021

- أيقظتْ مشاعرَ العُمانيين في المُغتربات والمهاجر، وتغنَّى بها الوطن العربي في مناسباته القومية المتقدة.

- أهزوجة سياسية أنشدها أبناء الخليج جميعا في مناهجهم الدراسية، وارتبطوا بأبياتها في نخوتهم العربية.

- نفثةٌ عُروبيةٌ، ودرةٌ إنسانية في جبين الدهر رصعّها أحمد السَّقاف، وأوجدها حسُّه الشعري المرهف.

- بين عبدالله الطائي والسَّقاف شجونُ الأمس، وذكرى العَمَلِ العربي المشترك وزمالة تاريخية لم يمحها الزمن.

كلّ شِبْرٍ من الترابِ العُماني

هو قلبي ومُهجتي وكياني

أفتديه وكلّ حبةِ رملٍ منه

أغلى عندي من العقيانِ

وله في دمي حقوقٌ وهل

ينكرُ حقَ الدِّيار غيرَ الجَبانِ

أهله مِعْشَري فأنَّى توجَّهْتُ

وجدتُ الوجدانَ من وجداني

والأصولُ التي نَمَتْهُمْ نمتني

واللسانُ المُبِينُ فيهمْ لساني

أمةُ العُرْبِ أنجبتنا فهذا

من مَعَدٍّ وذاكَ من قحطان

نحن عُرْبٌ ولن نكونَ لدى الجدِّ

سوى الأكرمين في الميدانِ

***

تُمثلُ قصيدةُ الشاعر الأستاذ أحمد زين السَّقاف المعُنونة بـ "عُمان والخليج العربي" المنشورة في صدارةِ الصفحة السادسة عشرة من مجلة " العربي" بالعدد (122) الصادر بتاريخ الحادي من مارس من عام 1968م، والمُعاد نشرها في ديوان الشاعر الصادر عن دار العودة ببيروت، ص 280 - تمثل قيمةً كبيرةً في نفوس العُمانيين والعرب جميعاً، وهي في جانبِها الخاص انعطافة نفسيةُ وروحية للعُمانيين الذين تغنوا بها كثيراً ووجدوا فيها معززا روحيًّا لنفوسهم الثكلى المليئة بالإحباطات والهزائم النفسية جراء ما وقع بوطنهم من خذلان في ذلك الفترة العصيبة من ستينيات القرن العشرين وما قبلها، فكانت أنشودتهم المفضَّلة وملاذهم الشعري الحالم بالأمل .. قصيدة – ولا أروع - حَملَ عنوانُها أكثرَ من دلالة بمثل ما حَملَ مضمونها كلَّ أشكال التوقعات الوطنية، فكانت أهزوجة سياسية لطالما أنشدها أبناء الخليج جميعاً في صحوتهم القومية، وارتبطوا بأبياتها في نخوتهم العربية المعروفة، الأمر الذي عزز حضورها في وسائل البث الثقافي والمقررات الدراسية لمادة اللغة العربية في أكثر من دولة خليجية.

لقد جاءت القصيدةُ منحوتةً من صُمّ الجبال، ومُصاغة بهامات الرّجال – كما يقال - ومستوحاةً من ألق المشاعر القومية في أقصى درجات تألقها، وفيها ألق الشاعر الثائر وموقفه، وصوته المدوّي بالكلمات الجزلة، فغطَّت فعلاً حاسماً، ورسمت حدثاً جريئاً له ما بعده ، حدثٌ ارتبط بالسياسة وآلَ إليها، نكتشفُ ذلك حينما نتعرفُ أن زمنَ كتابتها مرتبطٌ بالمرحلة القومية وما بها من تداعيات الموقف الوحدوي العروبي الحالم بالوحدة، والتائق إلى النضال والكفاح والحرية والاستقلال والوحدة، ونبذ الدخيل ومقارعة المستعمر البغيض، كلُّ ذلك أوجد لها وقعاً ملموساً، وتربة خصبة في نفوس العُمانيين إبان مرحلة الضياع والخسران، التشرد في المغتربات والمهاجرة ، فرفعت معنوياتهم ، وأيقظت قلوبهم ، وأشعلت روح انتمائهم إلى العروبة قاطبة والخليج خاصة، كما أوقدت في نفوسهم شعلة الأمل والأمان معاً ، وربطتهم بالعروبة وبإخوانهم العرب في مشارق الأقطار ومغاربها، فأحسّوا أن لديهم إخوة يتوجعون بتوجعهم، وأنهم ليسوا وحدهم في قضيتهم السياسية الفارقة.

لقد أصبح لهذه القصيدةِ من الذيوع والانتشار ما جعل وسائل البث الثقافي ترددها وتنشدها في المحافل والمناسبات وتضعها في مراتب خطاب السَّاسة والمثقفين الطليعيين، وربما أحاطت بها البنى الاجتماعية والثقافية والجماعات، فحفظتها وعلقتها في جدران بيوتها ومكاتب إداراتها.

القصيدةُ – إذن- ناضحة بالهمِّ القومي الملتهب، الذي يرتفعُ مداه عالياً ليطالَ مكوناتِ الثورةِ والنضالِ، والفخر والاعتزاز، ويرقى بلغته إلى مفردات الفداء والنصرة والتذكير بتاريخ وطن غدا في أقسى حال.. إنها نفثةٌ عروبيةٌ، ودرةٌ إنسانية في جبين الدّهر رصعّها قلمُ الشاعرِ الكبير زين السَّقاف، وأوجدها حسُّه الشعري المُرهف، فكانت صعقة لكلّ من تسوّل نفسه النيل من عُمان في ذلك الوقت أو التقليل من شعبها.

وفي جانبها الآخر صيحة في وجه كلِّ من أرادَ فصل أوتار الخليج وأواصل العروبة أو النيل منهما.. إنها أنبلُ ما يتوجّه به الشعر تجاه السياسة، ومنه اتجاه الوطن الضائع آنذاك والمغلوب على أمره... من هذا كله وغيره اكتسبت قيمتها...! ويا لها من قيمة!

أولا القصيدة في وصفها المادي: انتظامٌ أنيقٌ في نَسَق المرحعيات التاريخية: -

القصيدةُ كلاسيكية الاتجاه والتصنيف، مناسبتُها مثبتة – خطأ- في هامش تدوينها مذيلة بعبارة: " كتب سنة 1968م ردَّا على مطالبة شاه إيران بالبحرين"، وفي هذا إحالة - غير موفقة - إلى سؤالِ جوهري يتصل بالمضامين التي حوتها، والمعاني التي أوجدتها، والسياقات التي وصفتها، ومن أهم هذه الأسئلة: إذا سلمنا بحقيقة تلك الإشارة وخُط فيها بأنه في البحرين فما حظُّ البحرين من مكونات القصيدة الموضوعية؟ ولماذا لم يكن للقضية تفصيل وآلت إلى الإجمال؟ وماذا كسبت عُمان من فارق واضح في النظم والبيان؟، هذه الأسئلة أوجدت إشكالية اعتبرتها بعض المقررات المدرسية خارجة عن إطار مناسبتها؟ وعنونتها بـ " قصيدة الخليج " ساحبة عُمان من العنوان؟ وماذا أراد الشاعر من ذلك إذ هو في الاعتبار أفصحَ عن المناسبة وضاق عليه إثباتها؟ أليست هذه مجازفة شعرية تؤول سياقاتها إلى ما يعتمل في حسِّ قائلها من فكر قومي متقد؟ أم أنه أراد شيئاً آخر غير ما ذكرناه؟

والإجابة على هذه الأسئلة تؤول إلى ما عُرف عن السقاف الشاعر من أنه ينسج قصائده في نسق مناسبة ما وأبياتها في نسق آخر، وأحيانا يستخدم مقاطع من قصيدة ما ليربطها بمناسبة أخرى، وقد تكرر منه ذلك في أكثر من قصيدة مما يدعو إلى الشك والتيقن بأن بعض قصائد السَّقاف المثبتة في ديوانه تحتاج إلى تدقيق، وتلك رؤية أفادنا بها من درسه واعتنى بشعره... ويتأكد لنا هذا اللبس إذا ما عرفنا كذلك بأن القصيدة في نشرها الأول في مجلة العربي لا تحتوي على هذه الإشارة حول مناسبتها ، مما يعطينا المبرر بأن القصيدة عُمانية في قلبها وقالبها وهو قائلها لا محالة.

القصيدةُ في جانبها الفني تتموضعُ في قالب المدرسة الكلاسيكية، وتمتحُ من نكهتها متسمة بخصائص " العناية بالأسلوب الحي الناضح بالدلالات الموحية، والحرص على فصاحة اللغة وجزالتها، وأناقة العبارة. ورونقها، وكأن همَّ قائلها مخاطبة الجمهور المثقف طمعا في النصرة والتضامن، زد على ذلك التعبير عن العواطف الإنسانيّة العامة المختزنة في الكيان الذاتي الجمعي لا الفردي، وتوظيف الأدب لخدمة الواقع والقضايا السياسية، والجنوح إلى الحقيقة كما هي دون مزايدة، والاهتمام بالأمة والبحث عن القواسم المشتركة بين أقطارها".

ثانيا: القصيدة في نسيجها البنائي اكتظاظ ُمتوحّد بالمشاعر، وبنيةٌ مرصّعة بالتفاصيل:-

تتكونُ القصيدة من أربعةٍ وعشرين بيتاً تسْبَحُ جلَّها في ساحل البحر العروضي (الخفيف)، والقافية النونية المطلقة، المتناسبُ نغمها قلباً وقالباً مع حالة الشاعر المتدفقة المتسمة بالثورة والاندفاع، وارتفاع مدى الصوت الصارخ في وجه الأعداء، إنها صرخةٌ قائمةٌ على وحدة البيت دون سواه، متصلا بوحدة المعنى، ويمكن تقسيم – على إثر ذلك - في مباحث متعددة كلّ واحدٍ منهما متشابك مع الآخر ويحتوي على ما يلي:

1- نشدانُ الوحدة والإشادة بالروابط ووشائج القربى بين عمان ومثيلاتها العربيات

2- منطلقاتُ الثورة والاستنهاض: وفيها تحدي الطامع في أرض الخليج والموجه سهامه نحوها، ولعله في ذلك إشارة إلى المطامع الفارسية وتهديدات شاه إيران على نحو ما تشي تجوزا - إشارة مناسبتها المثبتة.

3- أواصر الثورة وركائزها وتتحقق في المبادئ القومية فيها نجد استحضار التاريخ المشترك -والحضارة الضاربة الجذور.

4- الدعوةُ إلى اليقظة والاستعداد والصحوة واستنفار الهمم نحو العطاء والتنمية والصحوة بكل أشكالها.

5- استنطاق التاريخ العُماني والاعتزاز به، واتخاذه أداة للإقناع، وتوجيه الخطاب.

ترتفعُ حدةُ الخطاب القومي ومستوياته الصوتية في القصيدة في تنامي مطرد متواصل، منتقلا الشاعر فيه بين "الأنا" الثورية ذات البعد الوحدوي "و" نحن" المستنهضة ذات الاتجاه المعني بالمستقبل المنشود وما فيه من ازدهار وتقدّم؛ كلُّ ذلك يجري في أسلوب فخر واعتزاز متكاتفين، ليمثل صوت المجموع الهادر الكتلة الكبرى، وكأنه صوتُ موجٍ يمتدُ ويرتد في ثنائية مفعمة بالتناسق والانتظام، فتتوحد فيها أشكال الخطاب بدءًا ومنتهى، حتى تصل إلى أقصى حالات الاستنكار والشجب والرفض للتجزئة، والدعوة إلى الجهاد ، فتكثر في معجمها كلمات " تؤول إلى سمات القوة ( دوّخوا – الطوفان – الفتوحات – الخطوب تهزّ .. الخ) وأخرى تؤول إلى المصطلحات الحضارية (مَعَدٍّ: (جذر العرب الأول) – قحطان (كتلة قبلية قديمة) – الزيف (الغش) – نهضة (التقدم والازدهار) – البهتان (الكذب والتزييف) - الأباة (الرافضين للخنوع) تعززها في ذلك الصور البيانية كالاستعارة المكنية في قوله: (الثغور التي نزهتك) – والكناية (وحدة الخطوب) والتشبيه المؤكد (كالبنيان).

وكذلك الأساليب الإنشائية المتمثلة في: الأمر (تقحّم - تلفت -أعدها - فَجر) " النداء "المكثف الرامي إلى التخصيص والحصر والفخر (يا خليج. الأباة.)، والسؤال الحائر التائه (أيّ فرق)، والتكرار (كلّ)، والاستثناء الذي يفيد القصر (سوى الأكرمين)، وأفعل التفضيل الموحية بالفخر (أوهى من العقيان) لتكون محصلة ذلك كلّه كثافة من السياقات الشعرية الراسمة للبعد التخيلي للنَّصِ والخادمة الموضوع الثوري الواجدة إياه ملتهباً ناضحاً بكلّ ما يفيد ويخدم عرى النَّصِ ويربطُ أوصاله.

القصيدةُ بكليتها - إذن - تؤول إلى فكرة مركزية هي: اعتداد الشاعر وفخره بعروبته واعتزازه بأمته مؤكدا المكونات والأوصال الجامعة بين ذوي هذه الأمة أقطارا وشعوبا، وهي تنبثق من هذه الفكر المركزية أفكار جزئية قوامها التحدي والإباء والصحوة ، والاستنهاض والدعوة إلى لمّ الشمل والتصدي للخطر الغاشم ، وكل هذه الأفكار جرت وفق أساليب شعرية وبنى موحية عملت على وضع النَّصفي إطار متماسك يوصله بمصافٍ راقية من التعابير المبتكرة والكلمات المفضية إلى دلالات أعمق ككلمة ( حر ) التي تفيد بالعمل الجاد ، وكلمة (طمع )، التي تفيد الخسة والرغبة إلى التملك، وكلمة ( رغم أنف الخطوب ) التي تفيد التحدي ، وكلمة (خالص الإيمان ) المحية بالطهر والنقاء وهي كلمة دينية تربط قاموسه الديني بفكره القومي في علاقة تناغمية واضحة المعالم.

الشاعر- إذن – ابن بيئته وسليل مرحلته المتوهجة، يبدأ مطلعه الأول بكلمة " كلّ " التي تفيد اتساع الرؤية الشمول القاطع الذي لا يتجزأ منه شيئاً ، ثم يكرره للتأكيد عليه جاعلا من (كل) هذه أداة تعبيرية لإظهار ألقه الشعري الحالم باستحالة التجزئة وعدم التفريط في " كل شبر " رغم أن (الشبر) قطعة صغيرة لا يساوي حجما وكيفية شيئا وكأن الشاعر يؤكد عدم المساومة في تراب الوطن البتة ، وذلك – لا شك تقديراً لمكانته في نفسه وهي تنبع من مكانة القلب والمهجة والوجدان، وكلها علامات ثلاث تُقيم عُرى أواصر القيمة المعنوية والمادية للوطن المعني " عُمان " ومنه الخليج والوطن العربي .

ينتقلُ الشاعر – بعد ذلك إلى بيان ثيمات القيمة المعنوية والمادية للوطن المخاطب ببعث تراثه ومفردات حضارته، وبأنه طهر أرضه من أعداء سابقين كالفرس والبرتغال والأوروبيين فكانت هذه القيمة الخالدة المتجذرة تشي بذكر مفرداتها فيصف (له في دمي – أهله أهلي.. وأصوله التي نتمنّى) لتكون المحصلة: أمة العرب التي أنجبته، غير أن الضمير يتحول من المفرد إلى المجموع " أنجبتنا، وتراوح الضمير بين الأنا المفردة ونحن الجامعة تؤكد سعي الشاعر إلى إثبات القيمة والأهمية التي تبرز المكان المتمثل في عُمان " التي أظهر عدم مساومته في أرضها، فكلّ شبر منها هي روحه ومهجته وكيانه وأنَّى للمهجة والقلب المساومة فيها، فهذه حواسه التي تجعله حياً، والشاعر استخدمها لإثبات عدم حياته إلا بها.. حتى غدت مؤصلة ومرتبطة بالجناح الآخر من هذه النفس وهي الفكر أو العقل الذي ينبع من إدراكه وتبنيه للفكر القومي الذي يظهره في عمومية مطلقة: (الشمال الذي يتممه نجد حبيب إلى الجنوب اليماني)، وكذلك قوله: (دوّخوا البرتغال في البر والبحر وكانوا في الحرب كالطوفان) فهذا البيت نتاج تلك العلاقة الحميمة المرتسمة في ذاته والمكونة له وهي المعادل الموضوعي للمشاعر والأحاسيس التي أظهر القلب والمهجة والوجدان.. على أن ذلك كله جاء توطئة وتمهيدا لمقصد الشاعر الذي أظهره في ربط العلاقة وهي قومية لا محالة بين كريم من عُمان ... وماجد بحراني) الهدف الذي رمت إليه القصيدة في احتجاجها السياسي على مطالبة شاه إيران بالبحرين فكان عُمان وسائر أقطار العروبة مطالبة بهذه المطالب فالعدو هنا لا شك أن أطماعه ستتوسع، فمتى بدأت بالبحرين فسواحل الخليج ودوله كلها مراميه، ومنأى أمله، لهذا جاء الشاعر بعُمان بدءًا ومفتتحاً لتكوين صورة الوحدة التي ستقف من الجنوب إلى الشمال أي من عُمان مرورا بالبحرين وانتهاء بالأقطار الأخرى..

والشمالُ الذي يُتَمِّمُهُ نجدٌ حبيبٌ إلى الجنوبِ اليَماني

****

وحدتنا الخطوبُ حتى غدونا رغم أنفِ الخطوب كالبنيان

تتوالى بعد هذا البيت مؤكدات النفي والرفض والشجب التي يحشدها الشاعر في وجه من يراه عدوا طامعا في أرض العروبة، ويستخدم في ذلك ضمير الجمع " نحن " الذي يفيد التخصيص و" لن" النافية الزمخشرية سلاحاً يشهره، فنحن في رأيه عرب.. ونحن تاريخ.. ونحن الأكرمون.. إنها تعبيرات ما تفيد التجذر والاعتزاز والوحدة والتعاضد:

نحن عُرْبٌ ولن نكونَ لدى الجدِّ سوى الأكرمين في الميدانِ

*****

يا خليجَ الأباةِ أنتَ خليجُ العُرْبِ سَميت من قديمِ الزَّمانِ

كيف تنساكَ أمةٌ أنتَ منها كالجناحِ اليمين في العقيانِ؟

فتلفتْ تَجدْ حواليكَ بغدادَ تهزّ الصاحين في (تطوانِ)

تصل القصيدة في كامل نسقها بخطاب التحدي والعنفوان من خلال القوة الدافعة والمدافعة عن الوطن المقصود وكأن الوحدة في ذهنه تحقق والنصر تجلّى " فالملايين عرفت حقيقة طمع العدو في أرض الخليج ولم يبق مجالا للتدجيل والكذب والشعارات الجوفاء التي ترى الخليج فارسياًّ ":

والملايينُ قدْ أفاقتْ لم تبق سبيلٌ للزيفِ والبُهتانِ

فأعدْها كما بدأتْ وفجّر ثورة في العلومِ والعُمْرانِ

فالبيتان محصلة القصيدة، وغاية الشاعر ومبتغاه في الاحتجاج واليقظة والثورة والفخر يريم بها رؤيته الحالمة بتقدّم الأوطان، وازدهار حياة إنسانها، وهما في ذات الآن مرتبطان بمرامي الثورات، وعدم الجنوح إلى العبثية؛ وكأن الشاعر يؤسسُ خطابه -على أساليب الكثرة (الملايين) لتكون معادلا موضوعيا للحمة العربية، للوصول إلى النتيجة اتساقاً مع طبيعة الخطاب الكلاسيكي الذي يستثمر الكلمة والأسلوب لصالح الغاية التواصلية مع الحدث الذي كتبت فيه، فكأنها رسالةٌ احتجاج وصرخة وبعثُ همم، ويا لها من رسالة؟ ! وما أنبلها من صرخة؟

ثانيا: السَّقاف الشاعر القومي: مرجعيات الحياة وأفاق التكوين:

لا يمكن تناول القصيدة دون تناول مرجعياتها المتمثلة في ذات الشاعر (قائلها ومبدعها الموهوب حقاً)، فقائلها حلمُه قوميٌّ، وقلبه عروبيٌّ، وروحه استنهاضية تواقة متقدة، وفكره ينبض بالأمل والألم تجاه أقطار الأمة العربية كلها.. ذلك هو الشاعر الحضرمي مولداً الكويتي انتماءً أحمد زين السَّقاف ( 1919 - ) الذي تترجم المدونات حياته الكثيرة له ( كمعجم البابطين) بالنَّص التالي " أنه شاعر ولد بجنوب الجزيرة العربية، ثم هاجر للكويت وعاش فيها ودرس في مدارسها ، وأكمل دراسته النظامية في بغداد والقاهرة فتحصل على درجة عالية في الحقوق، وعين في أواسط الأربعينيات مدرسا في أكبر مدرسة بالكويت، فمديراً لها، وفي عام 1962 عُيّن وكيلاً لوزارة الإعلام ( الإرشاد والأنباء)، وفي عام 1965م عين عضواً منتدباً للهيئة العامة للجنوب والخليج العربي بوزارة الخارجية، وتقاعد عام 1990. أصدر السَّقاف مجلة (كاظمة) 1948، وفي عام 1952 تولى رئاسة تحرير مجلة (الإيمان). ورأس وفد رابطة الأدباء إلى اجتماعات مؤتمرات الأدباء ومهرجانات الشعر في كثير من الأقطار العربية من دواوينه الشعرية: شعر أحمد السَّقاف 1986 - نكبة الكويت 1997. وله مؤلفاته منها: المقتضب في معرفة لغة العرب - أنا عائد من جنوب الجزيرة العربية - الأوراق في شعراء الديارات - حكايات من الوطن العربي الكبير - تطور الوعي القومي في الكويت - في العروبة والقومية"

انتمى السَّقاف إلى الاتجاه القومي قلباً وقالباً حتى صار في الكويت أحد أقطابه تتساوى مشاعره مع أقرانه الذين لقد انبثقت فكرة القومية العربية لديهم كما يقول الدكتور خليفة الوقيان "من الإيمان الراسخ بقضايا العروبة، وذلك "بحكم انتمائهم العربي، وانفتاحهم على العالم ، وارتقاء وعيهم السياسي ، فأصبح هؤلاء الشعراء يدركون طبيعة الممارسات الاستعمارية ضد الشعب العربي، فناصروا الأحرار في نضالهم فضلاً عن متابعتهم الدقيقة للوضع في فلسطين بغية تبنيهم للدفاع عنها ودعواتهم الملحة لتحقيق الحلم العربي بالوحدة" ومن هذا المنطلق حملت قصائد ديوانه عناوين بأسماء الأقطار العربية فكانت له وتلك ظاهرة مميزة اعتبرها النقاد الذين كتبوا عنه

ثالثا: عُمان في قلب السَّقاف ومهجته وكيانه..

أحبّ! السَّقاف عُمان بمثل ما أحبَّ كافة أقطار العروبة، وسعى إليها باذلا روحه وشعره، وجاهد من أن تبقى عربية حرة مستقلة شامخة رفيعة اتساقا مع تاريخها الحافل وحضارتها التليدة وهو بذلك يستثمرُ المنطلقات القومية على نحو ما يقول:

إن قوميتي فداءٌ وبذلٌ لبني أمتي إذا جدَّ ما جد

أتحدَّى بَغْيَ الطُغاةِ بوعي تتباهى به النجومُ وتعْتد

عرف السَّقاف عُمان بمثل ما عَرَفَ أقطار العروبة الأخرى، فهي عنده سيان كمثيلاتها العربيات يجري حبّها في دمه وفق توقٍ قوميّ متقدٍ ونزعته عروبية ونضال لا يعرف الحدود:

إن العروبةَ إقدامٌ وتضحيةٌ والعُرْب عبر عصور الدهرِ ما هانوا

ابتدأت صلة السَّقاف بعُمان من صلة روحية بالمكان وأهله ورموزه وخاصة أولئك الذين زاملهم في بغداد وعرفهم في الكويت ، إضافة إلى قراءات ممنهجة ثقافية مبكرة غذت روحه وفكره بحضارتها التليدة فعرفها بحكم الجوار الجغرافي والقرب الاجتماعي والعلاقات الثقافية والاجتماعية، ثم توطدت في سفراته الأولى لطلب العلم في الأقاصي، فكانت بغداد محطَّ رحاله وفيها مرج البحرين يلتقيان، هناك التقى بعُمان ممثلة في زملائه الذين وفدوا إليها في شبابه أي في الأربعينيات "فكانت مدرسة الأعظمية مرتع العمانيين أيضا وفيها أمثاله الشاعر والأديب عبدالله الطائي، والكاتب عبدالقادر الغساني وغيرهما من طلاب البعثة التعليمية الأولى، ثم نَمَتْ علاقاته بهم، وتطورتْ إلى أفاق الفكر القومي الجامع الوحيد آنذاك؛ لهذا جاءت هذه المرجعية صدى لتأثير وتأثر وتعريف ومعرفة ورؤية عن قرب للإنسان والكيان والحضارة، وهي مفاتيح القصيدة كلها مفيدة لقراءتها بتوسّع إن أرادنا ذلك.

وفي الختام لا يمكن أن أختم مقالي هذا تحليلا لهذه القصيدة وبياناً لمكانتها في نفوس العُمانيين دون أن ألجَ إلى ذلك اللقاء التاريخي اليتيم الذي جمعني به بمكتبه، فقد التقيتُ بالسَّقاف في مكتبه صبيحة يوم الثلاثاء 20 أبريل من عام م1989، وكان لقائي به بحثا عن ذكرى رفيقه الأستاذ عبدالله الطائي الذي عرفه في بغداد طالباً ، وفي الكويت موظفا، والتقى به لا شك في رحاب الصحف كاتبا، وفي منصات الإلقاء شاعراً، وبين جنبات العمل السياسي ثائراً ومناضلا، قومي النزعة والهوى، وكانت بينهما علاقات ثقافية برهنتها حياة الطائي في الكويت لعشر سنوات متواصلة، كان الطائي فيها الوجه الثقافي العماني في ذلك القطر الخليجي المجيد، ورغم ذلك كان رأي السَّقاف في الطائي مخالفاً لما توقعت ، فقد صدمني برأيه في صديق عمره ورفيق دربه فكراً وأدباً، فأفادني برأيه بعمومية مطلقة لا تنمّ عن شيء ذي بال وقد أثبتها في كتابي " عبدالله الطائي حياة ووثائق بالنَّص التالي " مهما كان اتفاقي أو اختلافي مع عبدالله الطائي رأياً وفكراً ، فإنه سيبقى رمزاً أدبيًّا له مكانته ووجوده لدى الأوساط الأدبية في الخليج " .. يبدو أن شهادة السَّقاف في الطائي فيها ما فيها من شجن الاختلاف مع المحافظة على رباط المكانة والأهمية والتقدير الذي يبديه له بحس حضاري راق.. لقد جمعت الطائي بالسَّقاف علاقة الفكر العروبي المتقد آنذاك، وأي كان اختلافها في الرأي فإن علاقاتهما الأخوية لم تنقطع بل ظلت متواصلة إلى ما بعد رجوع الطائي إلى وطنه وتوليه وزارة الإعلام ، فقد كتب له رسالة بتاريخ 10 ديسمبر 1970 م رداً على رسالته التي أوضح له فيها عن مشاعره تجاهه، ووصف رسالته بأنها " رقيقة محملة بأنبل العواطف، وأسمى المشاعر " كما هنأه فيها بتوليه حقيبة وزارة الإعلام ووصف وظيفته بأنها " عبء وتكليف وهو لها جدير ، وأشار له بالقول " أنك ستعيد دورك العربي، وستحث زملائك بالإصلاح السريع الذي يتوق إليه الشعب المحروم " كما أوصاه ببعثة مجلة العربي وصحفييها سليم زبال وداؤود متري القادمين لعُمان آنذاك لتغطية أوضاعها وعقد تحقيق صحفي موسّع، وكان السَّقاف وقتها يشغل وظيفة رئيس تحرير مجلة العربي الشهيرة.

وتبقى قصيدة السَّقاف نبراساً خالداً مضيئاً بعُمان البلد العربي التليد، ولسان حاله ينبض بالحبّ لحضارته وأهله الذين هم في الاعتبار هوى فؤاده الأدبي لا محالة... ويبقى مطلعُ القصيدة " كلُّ شبر من التراب العُماني.. " حاملاً لدلالات كبرى ليس أقلها التجذر والانغراس وعدم التفريط في الأرض والتراب، وأكثر من ذلك الاعتزاز والافتخار والإشادة بالمجد العُماني الخالد وما أنبلها من إشادة.