المرجعيات .. أكثر من خط رجعة وخاضعة للتقييم
يبدو أن الفهم العام لـ«المرجعيات» على أنها الوعاء المعرفي، أو السلوكي، الذي يستعان به في كل ملمة، وفق الحاجة، والتخصص، والمحتوى، وهو المصطلح الأقرب إلى مفهوم العلوم بكل أنواعها وتخصصاتها؛ بداء من العلوم الدينية مرورا بالعلوم الدنيوية، وصولا إلى الأشخاص المتخصصين؛ كل في مجاله، ومنهجه، ولكنها في فهم آخر يقترب المعنى إلى كثير من عناوين الحياة، والحياة تضج بعناوينها المختلفة، والمتنوعة، المادية منها؛ والمعنوية، وفي كل منها هناك مرجعية لا بد من أن ينطلق منها المعنى، وفي كل منها هناك مرجعية لا بد من العودة إليها، بمعنى آخر لا يمكن أن ينشأ، أو ينطلق، أو يتكون موضوع ما؛ دون أن يلتحم بمرجعية ما؛ تؤصل حقيقته، أو منشأه، ومن ثم تدعمه ليكون حقيقة من حقائق الحياة، وقابل للنقاش، والأخذ والرد، ولتظل الـ«مرجعية» هي آخر ما يناخ الحديث حول موضوعها.
ويأتي السؤال، هل المرجعيات قابلة لأن تثار حولها الأسئلة، أم أنها تبقى هكذا محافظة على قالبها الذي لا يقبل التغيير، حيث لا يتسع فيه النقاش؟ ومن وجهة نظر خاصة، أن المرجعيات بقدر أهميتها، إلا أن تموضعها الزمني، لا يتيح لها ذلك النفس الواسع والمستمر، لأن تواصل عطاءاتها لكل زمان ومكان، ومتى تصلبت عند هذه النقطة، عندها أتاحت لنوافذ الأخذ والرد أن تكون مشرعة، فالحياة لم تؤسس على الوقوف عند نقطة محددة، في ظل خضم من التفاعلات الإنسانية، والكونية طوال الأربع والعشرين الساعة، وبصورة يومية، تجري فيها الأحداث، وتتبدل فيها السنن والثوابت، وتتغير فيها القناعات، وتستجد فيها الأحداث، وبالتالي متى كانت هذه التفاعلية المتوهجة، يبقى ليس من اليسير أن تكون هذه المرجعيات قابعة على جمودها، أو غير قابلة للنقاش والمراجعة، وإذا احتكم الأمر على جانب معين فقط في النظر إلى هذه الـ«مرجعيات» كمثال الكتب، فإن المراجع تؤرخ لزمنها، وجغرافيتها، وشخوصها الذين كان لهم فضل ولادتها ونشأتها، وستظل محكومة بفترة زمنها فقط، ولا يمكن أن تحل في أزمان متأخرة تحمل صفات وراثية مختلفة، ومنفصلة، ومنقطعة، ولا تمت بصلة إليها، إلا من خلال العنوان العام الذي يجمع بينهما فقط، وإلا لما كان لها أن تحمل صفة الـ«مرجعية».
ويحل السؤال الآخر هنا أيضا بالصيغة التالية: هل كل العناوين التي يشتغل عليها الإنسان تحتاج إلى مرجعيات، أم أن المرجعيات بهذا التوصيف الضيق لا تحتمل أن تكون مرجعيات؟ وبصيغة أخرى، هل الـ «مرجعيات» تقبل التقسيم بين التنظير العلمي والفهم الاجتماعي، فمن المسلم به حاليا أنها الأقرب إلى التنظير العلمي منه إلى الفهم الاجتماعي، حيث تحتل المراجع سواء العلمية أو البشرية الصدارة في الفهم السريع لمعنى الـ«مرجعيات» ولا ينظر إلى أي تعريف آخر لها، أو حاضنة تحتويها كعرف اجتماعي – على سبيل المثال -؟ فلو ضرب مثل بالأخلاق، أو بالسياسة، أو بالاقتصاد، أو بالثقافة، أو بالمصلحة، أو بالتعاون، أو بالتشارك، أو بالتبادل، أو بالسلوكيات، فهذه كلها مصطلحات لغوية، فهل هنا هي محصورة تعريفاتها بالمرجع اللغوي فقط؟ إذن وماذا على توظيفها على واقع الحياة، فمن أي تستمد مرجعيتها في هذه الحالة؟ أليس المجتمع بإرهاصات أفراده وتفاعلاتهم، وتشابكاتهم، وتضادهم، وتصالحهم، يمكن أن يعاد إليه مرجعيات كل هذه المفاهيم في حالة الاحتكام إلى ما ينتهي إليه الأمر في النهاية؟ فأسس الأخلاق مثلا، تنطلق من الأسرة وهي مرجع، وتقوّم من المدرسة، وهي مرجع، ويشتد عودها (سلبا أو إيجابا) في المجتمع الواسع وهو مرجع، فهل التنظير اللغوي يتسع لمحاسبة كل هذه المناخات عند العودة إليه للاحتكام إلى الفهم الصحيح للأخلاق، بعد كل حالات الحذف والزيادة، والقبول والرفض في توظيف السلوكيات الخلقية، وبعد كم متراكم من السنين والخبرة، سواء على مستوى المجتمع، أو على مستوى الفرد الواحد في المجتمع؟ أتصور أن ذلك عبئا كبيرا على المصطلح اللغوي عندما يعاد إليه الأمر بهذه التركة الثقيلة، وما ينطبق على مفهوم الأخلاق، ينطبق الفهم ذاته على مفهوم السياسة، والاقتصاد، والثقافة والاجتماع، وجميع المفاهيم القابلة للقياس على هذا المثال، وهنا يمكن الاحتكام إلى المعاني الدلالية لفهم أوسع، ومن ثم العودة إلى الـ «مرجعية» للتأصيل فقط.
تستلزم المناقشة أيضا طرح السؤال الثالث، وهو: من هو حارس بوابة هذه الـ«مرجعيات» على اختلاف تخصصاتها، وعناوينها العريضة، التنظيرية منها أو الواقعية، لكي تبقى مادة مقبولة لدى هذا الجمهور العريض؟ ربما في جانبها التنظيري «المصطلح» تبقى مرهونة بالوثيقة العلمية الصادرة عن جهة علمية، أو شخص متخصص في علم ما، واكتسب باجتهاده وبحثه وخبرته ثقة الجمهور، أما في الجانب العملي التطبيقي لمختلف الممارسات التي يقوم بها البشر، فإنها يصعب التكهن بحماية هذه المرجعية أو تلك، فالمسألة الأخلاقية، على سبيل المثال، كما جاء سابقا، مسألة حمالة أوجه، خاضعة كثيرا لظروف الناس في حيواتهم اليومية، ومستوى التأثر والتأثير الذي يطرق باب كل تجمع إنساني، فأي مرجعية يمكن العودة إليها للاحتكام في أمر أخلاقي ما، هل هي الأسرة، وهي مساهمة بدور ما، يظل محدودا؟ أم المدرسة، وهي كذلك كحال الأسرة؟ أم المجتمع (في بعديه: العالمي/ المحلي) وهو المكمل لمن سبقه؟ وذات التقييم ينطبق على بقية الممارسات، فالنظريات الاقتصادية غير خاضعة لمؤسس تنظيري معين، بقدر ما يقلبها السوق يمينا وشمالا، والثقافية كذلك، والاجتماعية (في تعدد عناوينها وتوجهاتها) كذلك، والسياسية كذلك، وحتى المرجعية الدينية (المتعددة العناوين) خاضعة لنفس التقييم، لوجود أكثر من دين، تمارسه البشرية، ووجود أكثر من مذهب تعتمده ذات البشرية، ومن هنا يمكن القول: أنه من الصعوبة بمكان العودة إلى مرجعية محددة لأخذ منها القول الفصل، واعتماده كمنهج حياة، والقياس عليه في كل الظروف المستجدة، ومن هنا ينتفي الجزم بوجود حارس بوابة لأي مرجعية كانت، وتبقى المسألة مرهونة بظروفها الآنية، ومجموعة العوامل الفاعلة في ذات المرجعية، وقدرة الناس على الاقتناع بها من عدمه.
ومع الإيمان بكل هذه التقييمات التي يمكن إطلاقها، هل يبقى لهذه المرجعيات خط رجعة تنطلق منها، تنظم آلياتها، تدعمها وتغذيها؟ هنا يمكن التأكيد على أن المرجعيات شأنها شأن بقية المفاهيم في الحياة لا يمكن أن تنقطع عن تسلسلها البنائي، مهما كانت الظروف التي تتعرض لها، صحيح أن من خلال تسلسلها هذا تكتسب الكثير من التحديث، والتغيير، فتعيد إنتاج نفسها في كثير من الصور، ولكن يبقى هناك محطة لا يمكن إلغاؤها، أو إنكارها، وهذه المحطة، وإن بدت لا تعبر عن واقعها الزمني الحاضر، ولكنها تعيد للأذهان على أن هناك مرجعا يمكن النظر فيه قبل إصدار الحكم النهائي في أي موضوع من موضوعات الحياة المختلفة، لأن في هذه العودة يمكن تطبيق أدوات القياس، وإجراء المقارنات، وهذا أمر مهم جدا في المسألة المرجعية، وإلا كيف يمكن تقييم مجموعات التراكمات، والبناءات، المعبرة عن المنجز الإنساني في مختلف اشتغالاته في الحياة؟ فاليوم، على سبيل المثال، عندما يتم الحديث عن تطور الطيران، تستحضر الذاكرة، فورا، محاولات «عباس بن فرناس» وعندما ذكر الطب، يستحضر إبن سيناء، والفارابي، وعندما تذكر الفلسفة يستحضر أرسطو وأفلاطون، وقس على ذلك أمثلة لا أول لها ولا آخر، وقد تم البناء على ذلك، سواء في هذه الأمثلة المذكورة، أو غيرها.
نستحضر هنا أيضا – خاتمة لهذه المناقشة - الواجب الأخلاقي تجاه المرجعيات، وهو الواجب الذي يذكر، وبكل إجلال وتقدير، كل من أسس لمرجعية ما، وهذا ليس كرما، وإنما تثمينا للأدوار التي لعبها فرد، أو مؤسسة، أو نظام سياسي، أو مجموع اجتماعي، ذلك أن الـ«مرجعيات» مناخات آمنة لبقاء المعرفة، ولتأصيل السلوكيات، ولحفظ التاريخ، ولقدرة الوعاء على الاحتفاظ بكل هذه الكنوز من الاندثار والتغيير، وإن صاحب مما تحتويه من التحديث، والإضافة، والتقدم عليه، فإن كل ذلك لن يسمح به في أن يغير فيما هو موجود في أي مرجعية كانت، لأن ذلك تاريخا، والتأريخ لا يقبل العبث به، حيث يظل هكذا يقبل أو يرفض بالكامل، وهذه من الصور المانحة لبقاء المرجعيات، وحظوتها السامية للمداومة والبقاء.
