ماذا بعد شاهين..؟
د. عبدالله باحجاج
هناك أولويات مستحقة لا تحتمل التأجيل، وتكتسب صفة الآنية المستعجلة، والأخرى تحتمل التخطيط الممنهج دون التمطيط الزمني، وفي إطار المستعجل، وهي من دروس جونو وفيت ومكانو، وقد جاء شاهين ليعلي من شأنها، ويبرز صفتها الاستعجالية حتى لا تتكرر المآسي، ويجد الفرد والجماعة والمؤسسات في دوامة متعبة ومرهقة للجهود وللجيوب، خاصة إذا كان توالي الأنواء المناخية متقاربا زمنيا - لا قدر الله - فكم سيكون قدرة الأفراد والمؤسسات الحكومية والخاصة أن تدفع من أجل التعويض وإصلاح الأضرار الاجتماعية والعمومية في حالة التوالي الزمني - وينبغي أن لا يغيب عن البال هذا الاحتمال - فاستحضاره يعني تبني خيار الحل الشامل والمستدام، من منطلق الأهم والمهم، سواء في مسألة التعويضات مقارنة بتعويضات مكونو 2019، أو إقامة دفاعات لحماية الولايات من السيول والفيضانات والأعاصير لتقليل حجم الأضرار.
في البداية لا بدّ من الإشادة، بإدارة مؤسسات الدولة من مدنية وعسكرية وأمنية مختلفة لإعصار شاهين، وكذلك الإشادة بمبادرات التضامن والتكاتف الاجتماعي الطوعية في كل ولايات السلطنة، وهي مثالية بامتياز، واستنفار فرق التطوع في الولايات لجمع التبرعات للولايات المتضررة من إعصار شاهين، تعكس الدلالة الثابتة للديمومة الاجتماعية لقوتنا الناعمة رغم التحولات المالية، وينبغي أن نعيد الحسابات في الحفاظ على هذه القوة من أية تأثيرات سلبية نتيجة التحولات المالية والاقتصادية، ونراقب بإعجاب كبير لسرعة وحجم تبرعات شركات ومؤسسات عمومية وخاصة من جهة، وبتحفظ كبير لأخرى التي لا تزال تلتزم الصمت في ظرفية قد يفهم فيها الصمت فهما مختلفا تماما وعكسيا.
ولن يختلف معي أحد، عندما أقول إن إدارتنا للأزمات ترتقي إلى الاحترافية خاصة في مرحلتي الأزمة وبُعيدها، بحيث أصبح لدينا الآن تجربة عميقة تسجل باسم سلطنة عمان، لكنها تحتاج الآن إلى التخطيط الدقيق، والعمل السريع لحماية الولايات من الأنواء المناخية المختلفة، حتى لو وقعت الكوارث - لا قدر الله - تقلل من أضرارها الإنسانية والمادية، وهنا جوهر المشكلة، ودون حلها ستتكرر المآسي بتوالي الأزمات، فجغرافية بلادنا ذات خصوصية عالية المستوى من المخاطر بطبعها، لم نتعامل معها بمنطق الأزمات في مرحلة توقع وقوعها، وفي حالات بعد الوقوع بسبب البيروقراطية، لذلك، ينبغي أن يكون الآن فوق طاولة اللجنة الوزارية التي شكلت بتوجيهات سامية، أولويتان بأجلين زمنيين عاجلين هما:
الأولوية الآنية في الجوانب الإنسانية والاجتماعية المتضررة، وكل ما يتعلق بها، حيث يظل الهاجس في هذه الآنية، تلكم الأسر التي تضررت منازلها وأتلفت ممتلكاتها الأخرى كالسيارات ومحاصيلها الزراعية وحيواناتها، وأضع هذا الهاجس فوق طاولة هذه اللجنة التي قيدت التوجيهات السامية عملها بضابط زمني يدلل على التقدير السامي بالآنية، ونجده في عبارة «في أسرع وقت ممكن».
وهذا يعني أن عمل اللجنة مرتبط بإنجاز تقدير حجم الأضرار في الولايات، ثم التعويض، بسرعة زمنية عاجلة من دون قيود بيروقراطية مفرطة تشل من مفهوم العامل الزمني «في أسرع وقت ممكن» وهناك تجربة أبني عليها رؤيتي حتى لا تتكرر تجربة التعويضات للمتضررين من إعصار مكانو في محافظة ظفار، فهي تجربة ليست مثالية في إطارها الزمني، فرغم وجود أموال التعويض إلا أنها لم توزع حتى الآن للمتضررين الذين أغلبهم يقعون في ولايتي رخيوت وضلكوت، مما أسهم في نزوح سكانها إلى ولاية صلالة حتى الآن.
والسبب الأساسي البيروقراطية، فمنذ إعصار مكانو في مايو 2019، لم توزع للأسر المتضررة سوى مبالغ مالية لدواعي استئجار منازل بديلة عن منازلها المتضررة، تراوحت بين 1000، 1500، 2000 حسب معيار التوزيع، وقد استنفدت هذه المبالغ سريعا، ربما لم تتجاوز العام، وظلت منازلهم من موكونو حتى الآن، مهجورة لعدم صلاحية السكن فيها، علما بأن مبالغ التعويضات مودعة في البنك، وقد تآكل منها مبالغ، والباقي ربما يصل إلى عشرة ملايين ريال فقط، وحتى الآن لا تزال قضية التعويضات في طور تقدير الأضرار، أي في البداية بعد تشكيل لجنة جديدة.
ونستدعي هذا الأمر الآن حتى نوجه رسالة لصناع القرار بضرورة حل قضية تعويضات متضرري مكونو سريعا من أجل عودة الأهالي إلى مساكنهم في ضلكوت ورخيوت الحدوديتين، في وقت كانت الفرصة مواتية للحل المستدام، كأن يتم إعادة بناء منازل المتضررين في مواقع جديدة مرتفعة وبعيدة عن مجاري الأودية ومنافذ السدود، وهذه الإمكانية متوفرة الآن للمنازل المتضررة من إعصار شاهين، وينبغي أن تستغل من منظور إدارة الأزمات قبل أن تقع أو توقع وقوعها.
ولو انحصر التفكير الآن في عملية إعادة بناء المنازل المتضررة أو إعادة تأهيلها في مواقعها، فسيكون بمثابة كمن يبني، ثم يقوم بهدمه لاحقا، وهذا منطق تجدد الأزمات وتواليها في ظل بقاء نفس الظروف والمعطيات قائمة، خاصة أن التوقعات تشير إلى تجدد الأعاصير في السنة ما بين مرة أو مرتين في بلادنا، أو حتى كان الأمر في متوسطة الأجل، لذلك تحتاج عملية إصلاح الأضرار الاجتماعية والعمومية أن تكون من منظور مستقبل المخاطر وفي ضوء رؤية واضحة لإقامة دفاعات لحماية الولايات.
وهنا، نقترح تشكيل لجنة في كل محافظة من محافظات البلاد لدراسة كيفية حماية كل ولاية من الأنواء المناخية، ثم تشكيل خارطة وطنية مفصلة بالتحديات والمخاطر وكيفية حلها، على أن تشرك في الحل الشركات الحكومية والخاصة كجزء من مسؤوليتها الاجتماعية، فطبيعة الجغرافيا لكل ولاية، ودور التخطيط القديم للمنشآت والمساكن لها دور في مآسي الكوارث المادية والإنسانية، ولو تم حل هذه الإشكاليات، فإن إرادتنا للأزمات ستكمل حلقاتها المثالية.
نعلم أن بعض المحافظات، كظفار، قد عملت لها دراسة من هذا القبيل منذ عدة سنوات بناء على توجيهات من السلطان الراحل - طيب الله ثراه - وقطعت فيها مراحل تنفيذية، أسهمت كثيرا في التقليل من حجم الخسائر المادية والبشرية من خلال الأنواء المناخية السابقة، لكنها توقفت.
وعندما كنت أتأمل في تجربتنا مع الأعاصير الحديثة التي عرفتها بلادنا خلال السنوات الأخيرة، بدت لي تصرفات بعض المواطنين قبل وأثناء إعصار شاهين على غرار الأعاصير التي سبقته، مستنكرة، لماذا؟ لأنه يفترض أن تكون هذه الأزمات قد رسخت في المجتمع ثقافة التعامل مع مثل هذه الأنواء المناخية الخطرة، فبمجرد الإعلان عن إعصار، وتأكد استهدافه محافظات محددة، هناك استحقاقات فردية وأسرية ينبغي القيام بها فورا، وأهمها الانصياع للإرشادات، واتخاذ احتياطات محددة، وهذا لم يحدث للبعض للأسف، والأغلبية من المؤكد أنها استفادت من التجارب، وهذا واضح بصورة جلية.
لكن، كيف يمكن تأسيس ثقافة التعامل الاجتماعي مع الأنواء المناخية من واقع تلكم التجارب؟ أرى هذا الهاجس، ينبغي أن يكون الشغل الشاغل لكل وسائل الاتصال الحكومية والخاصة خلال المرحلة المقبلة، عبر تخصيص برامج تفاعلية ترسخ هذه الثقافة البنيوية في المجتمع بحيث تجعلها - أي هذه الثقافة - إحدى الرهانات لمواجهة أية تحديات مستقبلية مماثلة، بعد ما انكشف القصور في الوعي لاستيعاب الدروس السابقة، وربما يشمل طموحنا في هذا النوع من التأسيس إلى امتداد تدريسه في المدارس، إذا ما كانت ظاهرة الأعاصير سنوية - والله أعلم - من هنا تكمن أهمية ترسيخ ثقافة التعامل المجتمعي مع مختلف الأنواء المناخية، كإدارة مسبقة للأزمات.
