عافية صدّيقي.. السجينة رقم 650
بعد أن تعرّضت مؤخرًا للاعتداء الوحشي في زنزانتها بسجن تكساس من قبل سجينة أخرى، عاد إلى الظهور من جديد، اسم الدكتورة عافية صدّيقي عالمة الأعصاب الباكستانية، التي تقبع في السجون الأمريكية، تنفيذًا لحُكم صدر عليها بالسجن 86 عامًا، حيث قامت نزيلة أخرى بتحطيم كوب قهوة ساخن حارق في وجهها، ليؤكد حادث الاعتداء لأهلها أنها لا تزال على قيد الحياة. وعقب زيارة مروة البيالي محامية عافية لموكلتها، قالت إنّها مصابة بندبات عميقة بالقرب من عينها اليسرى، وجُرح في خدها الأيمن، وكدمات في ذراعها الأيمن وساقيها، ليأتي السؤال بعد ذلك: من هي عافية صدّيقي؟ وما هي قصتها؟
بدأت قصتها في حقبة «الحرب على الإرهاب»، في مارس 2003، عندما اعتُقل في مدينة كراتشي، خالد شيخ محمد، الذي يُعتبر الرجل الثالث في تنظيم القاعدة وتعتبره أمريكا مهندس هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ فعقب اعتقاله اختفت عافية صدّيقي مع أطفالها الثلاثة من كراتشي، لكنها ظهرت بعد خمس سنوات في أفغانستان، حيث اعتقلتها السلطات المحلية في ولاية غزنة في 17 يوليو 2008، عندما قالت الشرطة الأفغانية: إنها اعتقلت امرأة تحمل جنسية باكستانية ومعها ولد عمره 11 عاماً، كانا يعدّان لتنفيذ عملية انتحارية ضد مقر حاكم الإقليم. وطبقًا لوثائق محكمة أمريكية، فقد كانت وقتها تحمل كيلوَين من «سيانيد الصوديوم» مخبأة في زجاجات كريم مرطّب، كما كانت تحمل خططًا لحرب كيميائية وأخرى هندسية لتمثال الحريّة ولجسر «بروكلين» ومبنى «امباير ستيت» في نيويورك؛ فسلمتها السلطات الأفغانية إلى القوات الأمريكية، التي بدأت في التحقيق معها. وحسب المصادر الأمريكية فإنّ عافية قفزت من وراء ستار الزنزانة على ضابطين أمريكيين قبل بدء التحقيق معها، وانتزعت واحدًا من سلاحهما ثم أطلقت النيران عليهما وأخطأت التصويب، وهي تصرخ «الموت لأمريكا» و«أريد أن أقتل جميع الأمريكيين»؛ لكن الضابط الأمريكي لم يخطئ حين أطلق النار عليها فأصابها في صدرها ودخلت في غيبوبة كاملة. بعد إصابتها نُقلت إلى قاعدة باجرام الجوية، وعولجت هناك لمدة أسبوعين، قبل أن تُنقل إلى أمريكا، لمحاكمتها بتهمة «الشروع في القتل»، وليس للاشتباه بعلاقتها بتنظيم القاعدة، رغم أنّ بعض تقارير الإعلام الأمريكية وصفتها بأنها أول امرأة يُشتبه بعلاقتها بتنظيم القاعدة، وأطلقت عليها لقب «سيدة القاعدة».
نالت عافية شهادة الدكتوراة في علم الأعصاب من جامعة «برانديز»؛ وفي التسعينات تزوجت من الطبيب أمجد خان، وأثناء دراستها في أمريكا كرّست نفسها للعمل الخيري، وتوزيع نسخ من المصحف الكريم في الجامعة التي كانت تدرس فيها. وابتداء من عام 2001، بدأت عافية وزوجها يظهران على رادار مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي اي) بسبب تبرعاتهما لمنظمات إسلامية وشراء كتب حول الحرب. وفي العام التالي عاد الزوجان إلى باكستان، وابتكرت عافية برنامجًا يعمل على حماية جسم الإنسان من الأسلحة البيولوجية، وهو ما يصب ضد مصلحة أمريكا التي أنفقت المليارات على تطوير تلك الأسلحة؛ فعرضت عليها أمريكا شراء أبحاثها وإعادتها إلى أمريكا وحصولها على الجنسية الأمريكية والعمل في أحد معاهد الأبحاث، لكنها رفضت وآثرت استكمال أبحاثها.
أما عن اعتقالها فقد حدث في 30 من مارس 2003، عندما غادرت منزلها في كراتشي مع أولادها الثلاثة قاصدة إسلام آباد، لكنها اختفت في الطريق قبل أن تصل إلى المطار، واعتقلتها الاستخبارات الباكستانية لصالح نظيرتها الأمريكية، التي نقلتها إلى قاعدة باجرام الجوية في أفغانستان - كما تقول أسرة عافية ومحاموها -. وفي حين كانت الأسرة تبحث عن ابنتها، أدرجها «مكتب التحقيقات الفدرالية الأمريكية» ضمن قائمة المطلوبين عام 2004، باعتبارها شخصية خطيرة تعمل مع تنظم القاعدة ضد المصالح الأمريكية، وظلت أسرتها تصرّ على أن ابنتها محتجزة لدى الأمريكيين، رغم النفي الأمريكي المتكرر، حتى تم التعرف عليها بأنها «السجينة رقم 650» في معتقل باجرام.
كانت البداية عندما قرأت الصحفية البريطانية إيفون ريدلي - وهي سجينة سابقة لدى حركة طالبان أعلنت إسلامها بعد إطلاق سراحها - كتاب «المقاتل العدو» للحقوقي معظم بيك وهو أحد سجناء باجرام السابقين، حول سجينة تُعرف بـ «سجينة رقم 650»، فدفعها حسّها الصحفي إلى البحث عن هوية تلك السجينة المجهولة، فأجرت تحقيقًا في الموضوع، توصلت من خلاله إلى أنّ السجينة هي طبيبة باكستانية تدعى عافية صدّيقي، الحاصلة على شهادات عدة، فأعلنت خبرها للعالم، وقادت حملة مكثفة للتوعية بقضيتها، وعبّأت النشطاءَ للتحرك في هذه القضية، فنجحت إيفون ريدلي في إثارة الرأي العام العالمي وأعدادٍ كبيرة من النشطاء والحقوقيين، وكشفت عن تعرض عافية خلال وجودها في السجن لأنواع شتى من التعذيب تفوق قدرة تحمل أقوى الرجال؛ وممّا قاله معظم بيك عنها في كتابه: «كان الحراس يغتصبونها في كلّ مساء بكلّ فعل شيطاني ونذالة تخطر على فكر أكثر الناس انحطاطًا وانحلالاً».
في بداية شهر أغسطس عام 2008، شرعت السلطات الأمريكية في محاكمتها التي استمرت في أوقات متقطعة إلى حين إدانتها في سبتمبر عام 2010 بجميع التهم الموجهة إليها، ومنها الشروع في القتل والاعتداء المسلح على الضابط الأمريكي، والتخطيط لاستهداف أماكن حساسة في أمريكا. وعلى الرغم من نفي فريق الدفاع عن عافية التهم الموجهة إليها، إلا أنّ المحكمة الأمريكية حكمت عليها بقضاء 86 عامًا في السجن. ومنذ ذلك الحين تمضي عقوبتها في سجن تكساس، واختفى اسمها، حتى الاعتداء الأخير عليها من قبل سجينة أخرى.
في قصة الدكتورة عافية صدّيقي، الكثيرُ من الدروس والعبر؛ كلّ درس يحتاج إلى مقال مستقل، منها أنّ أمريكا التي تدّعي لنفسها مبادئ الإنسانية وتظهر نفسها المدافعة عن حقوق الإنسان هي أكثر الدول إجرامًا ضد البشرية في التاريخ؛ والعصرُ الحديث خير شاهد على ذلك في كلّ مكان، هذا إذا لم نتناول إبادتها للهنود الحُمر وما يلاقيه مواطنوها السود من عنصرية. وفي الجانب الآخر فإنّ أمريكا تقف ضد أيّ جهاد إذا كان ضد الاحتلال والاستكبار والظلم، لكنها تؤيّد الجهاد المزعوم إذا كان مشوّهًا على طريقة داعش وشقيقاتها، ولا مانع لديها أن يفجّر المسلمون المساجد ويقتلوا بعضهم بعضًا، لكن الاقتراب من إسرائيل أو من الظلم الأمريكي فهو محرّم. ومن الدروس أيضًا أنّ هناك حكومات فاقدة للشرعية، وفي سبيل بقائها غير الشرعي في الحكم مستعدة أن تضحّي بشعوبها لأجل نيل الرضا الأمريكي، وهكذا فعلت الحكومة الباكستانية عندما اعتقلت الدكتورة عافية وأبناءها والكثيرين من الشعب الباكستاني وسلمتهم لأمريكا تحت حجة محاربة الإرهاب. ومن الدروس الأخرى هي أنّ ما يسمى بالعالم الحر - ومن ورائه الكيان الإسرائيلي - لا يريد أن يكون في الأمة الإسلامية والعربية علماء، خاصة في تخصصات نادرة، لذا فإنّ مصير معظم العلماء إمّا أن يكون قتلا أو اختفاء أو جنونًا أو سجنًا أو فقرًا. أما الدرس الأهم فهو ما قامت به الصحفيّة البريطانية ايفون ريدلي من جهود، حتى أظهرت مأساة الدكتورة عافية إلى الوجود؛ وهذه من صميم مهمة الصحفيين الأحرار، فلولا جهودها لما كان العالم عرف عن تلك الضحية المسكينة، التي تعرّضت لشتى أنواع التعذيب، بما فيه الاعتداء الجنسي المتكرر من قبل الأمريكيين، واستؤصلت بعض أعضائها، وعانت العذاب حتى أُصيبت بأمراض نفسية، بعد أن أجبرت على المشي حافية القدمين على صفحات من المصحف الكريم ممزقة وملقاة على الأرض لتدنيسها. ويبقى الدرس الأخير هو الدور الإنساني الرائع الذي قام به الناشطون والحقوقيون في العالم دفاعًا عن عافية صدّيقي؛ وهو درسٌ يجب أن يتعلمّ منه البعض ممن يُسمّون أنفسهم «ناشطين»، الذين كانت بضاعتهم الوحيدة هي السب والقذف وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والجهوية، فأخرجوا كلمة «ناشط» من مضمونها لتصبح أقرب إلى «مسبّة»، فليس كلّ من فتح قناة في «اليوتيوب» وأخذ في قذف الناس يمكن أن يسمى ناشطًا أو معارضًا، وإنما السؤال هو: ماذا أفاد الإنسانية؟ وماذا قدّم؟؛ فالذي ينشط في مجال الدفاع عن حريّات الإنسان - بغض النظر عن جنسية هذا الإنسان وعِرقه ودينه ومذهبه - هو الناشط الحقيقي، وهذا ما فعله الناشطون مع الدكتورة عافية صدّيقي، وهو ما فعله معظم بيك الذي شكّل مع نشطاء ومعتقلين سابقين، مؤسسات حقوقية تدافع عن «المنسيين» في جوانتانامو والسجون السرية الأخرى، ومن اختفوا في دول مثل ليبيا ومصر وسوريا وغيرها.
